هزيمة "حزب الله" تنقل المنطقة من موقع إلى آخر

مع الإعلان عن وقف لإطلاق النار في لبنان بين إسرائيل و"حزب الله"، يتكشف حجم الضربة التي أصيب بها الحزب على مختلف الصعد خلال شهرين من المواجهة المفتوحة، والتي قلبت المعادلة السياسية اللبنانية رأساً على عقب؛ فانتخاب رئيس جديد للجمهورية، الذي كان ممنوعاً ومعطلاً من قبل الحزب المذكور وحليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري لأكثر من عامين، صار مرغوباً لا بل إنه صار مُلِحاً.

تحرك الرئيس بري أخيراً وأطلق سراح مؤسسة مجلس النواب مسقطاً كل الشروط المعطلة التي كان قد وضعها لعرقلة أي عملية انتخابية لا يتم فيها انتخاب مرشح "الثنائي الشيعي" حصراً. كما أن القرار 1701 الذي كان معطلاً وممنوعاً صار مقبولاً بكل مندرجاته، لا سيما القرارات المرجعية وأولها 1680 الخاص بضبط الحدود والمعابر ومنع إعادة تسليح "حزب الله"، والقرار 1559 الذي ينص على حل كل الميليشيات والجماعات المسلحة غير الشرعية وفي مقدمها "حزب الله". وبات معلوماً أن انتخاب الرئيس المقبل سيمر وفق التقاطع الدولي الذي يتحكم اليوم بالساحة اللبنانية. بمعنى آخر، انتهى زمن اختيار رئيس للجمهورية تكون مهمته الأولى، كما كان يقول الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، "حماية ظهر المقاومة"، أي أن يكون مرتهناً للحزب على جميع المستويات.

كذلك انتهى زمن اختيار رؤساء للحكومات يدينون بالولاء لـ"حزب الله"، أو أقله يعتمدون خطاً تحالفياً تخادمياً غير مرئي (تحت الطاولة) مع الحزب المذكور. فرئيس الحكومة المقبل سيكون كرئيس الجمهورية منفتحاً على كل القوى السياسية، من بينها "حزب الله"، لكن لن تكون هناك قوة سياسية واحدة صاحبة القرار في الدولة اللبنانية ومؤسساتها. أما تشكيلة الحكومة الأولى في العهد المقبل فستشهد عودة المكوّن المسيحي الوازن إليها مع عودة حزبي "القوات اللبنانية" و"الكتائب" وعدد من المستقلين السياديين وإنهاء ظاهرة التمثيل المسيحي أو الإسلامي الذي لا يعكس صحة التمثيل البرلماني.

وبطبيعة الحال سيخلو البيان الوزاري من فقرة تتضمن ما يسمى ثلاثية "الجيش الشعب والمقاومة"، وذلك بعدما سقطت التسمية في الميدان وفي وجدان الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، فضلاً عن مخالفتها الصريحة للدستور ولـ"اتفاق الطائف" ولمنطوق القرارات الدولية ذات الصلة، وفي مقدمها القرار 1559 لعام 2005، وهو أهم القرارات التي فشلت كل المحاولات خلال عقدين كاملين للقفز فوقه، تارة بحجة تحويله إلى تهمة وخيانة، وطوراً من خلال تجاهله والتنصل منه، إما لشيطنته أو استسلاماً لـ"حزب الله" ومنطقه وسرديته. وللتاريخ نقول هنا إن القرار 1559 هو صك استقلال حقيقي للبنان وسيبقى.

الآن نحن أمام اتفاق وتفاهمات دولية وأطرافها معروفون: الولايات المتحدة، حلف شمال الأطلسي، إسرائيل وإيران. صحيح أن النفوذ الإيراني تعرض لنكسة كبيرة جداً في لبنان وبدرجات متفاوتة في المنطقة، لكن الصحيح أيضاً أن أي اتفاق من هذا القبيل الذي أشرنا إليه آنفاً يحتاج إلى إيران لكي يُنفّذ. الميزان ليس في مصلحة إيران وذراعها في لبنان. لكن القدرة التعطيلية ستبقى قائمة. الموجة الغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها سترسم المعالم الرئيسية للمشهد اللبناني، وربما السوري إذا ما تبين أن الهجوم الكبير الذي قامت به فصائل سورية مرتبطة بتركيا حصل بتنسيق أميركي، إسرائيلي، تركي، وبغض نظر من روسيا التي ترى أن تقييد النفوذ الإيراني في سوريا يصب في مصلحتها.

إن ما يحصل في لبنان هو ترجمة لانقلاب جيوسياسي كبير جداً في المنطقة. وليس مستبعداً أن تتعدى مظاهره الأراضي اللبنانية والفلسطينية. فما يحصل منذ بضعة أيام في شرق سوريا عند نقطة الممر الإيراني عند مدينة البوكمال مع انتفاضة عدد من العشائر العربية على الميليشيات المرتبطة بإيران، ثم هجوم المعارضة السورية المرتبطة بتركيا على ريف حلب، يؤشر، مع استمرار الانتفاضة الشعبية في محافظة السويداء، إلى أن ثمة متغيرات سوف تحصل قريباً في سوريا. وسوريا التي تعتبرها طهران جسرها الاستراتيجي نحو لبنان، لم تعد بعد الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة طوال العام الماضي، تلعب دور صلة الوصل الآمنة من إيران والعراق إلى لبنان حيث "حزب الله".

ومع الضربة القاسية للحزب، وبدء اهتزاز الميدان السوري تحت أقدام الإيرانيين، قد نكون دخلنا مرحلة التراجع الإيراني الاستراتيجي في الشرق الأوسط. ومن هنا سيتعين على المراقبين أن يدققوا في تحولات الساحتين اللبنانية والسورية في الأشهر القليلة المقبلة لمعرفة ما ستؤول إليه هذه المعركة التي قد تغير وجه المنطقة وتنقلها من موقع إلى موقع.