هل أعلن نصرالله انسحاباً أوّليّاً من جنوب الليطاني؟

إلى جانب اعترافه بالتفوّق الإسرائيلي، التكنولوجي والعسكري، واعترافه بأنّ إسرائيل بدأت القصف فجر الأحد، الأرجح بمعلومات أميركية، تضمّن خطاب الأمين العامّ للحزب الأحد الماضي، إعلاناً استراتيجيّاً مفاده أنّ حزبه أخلى جنوب لبنان من الصواريخ البالستية والدقيقة. فهل كان هذا الكلام جزءاً من مفاوضات التهدئة، وأحد مقدّمات السعي إلى إنهاء الحرب، وفتحاً لطريق الذهاب إلى تنفيذ القرار 1701؟

“كثير من الوديان وأماكن الفلوات في بعض المناطق الجنوبية، من دون تحديد، وإن كان الإسرائيلي يعرف ‏نفسه أين قصف، يعتبر العدوّ أنّ فيها منصّات للصواريخ البالستية والدقيقة، وأنّ فيها منشآت يمكن ‏تدميرها. القائد السيد فؤاد شكر، قبل مدّة من الزمن، اتّخذ قراراً وبلّغ الأخوة وقاموا بإخلاء جميع هذه الوديان ‏والمنشآت. وما قُصف هو وديان خالية أو تمّ إخلاؤها من هذا النوع من الصواريخ. أتحدّث بالشيء الذي له ‏علاقة بالبالستي وبالصواريخ الدقيقة التي يُسمّونها هم الصواريخ الاستراتيجية”.

هذا المقطع هو جزء من خطاب الأمين العامّ للحزب الأحد الماضي، في سياق الإعلان عن عملية الردّ على اغتيال قائده العسكري الأوّل فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية قبل شهر تقريباً.

يقول هذا الكلام، بما لا يدع مجالاً للشكّ، إنّ الحزب أخلى الجنوب من الصواريخ الدقيقة والبالستية. وهو الإعلان الأوّل من نوعه عن “إخلاء” مواقع و”منشآت” في “الوديان وأماكن الفلوات”، في تأكيد أيضاً على أنّ أمكنة تخزين هذه الصواريخ بعيدة عن أماكن سكن المدنيين في جنوب لبنان.

هذا التطوّر الأرجح أنّه جزءٌ من سياق المفاوضات الإيرانية الأميركية. فهو كلام استراتيجي. والإعلان عنه غداة إنهاء الاستنفار في المنطقة حول ردّ الحزب واحتمال نشوب حرب كبيرة وواسعة، يمكن وضعه في سياق التهدئة. وهو تقديم أوراق جديدة عن حسن النيّة، بعد الردّ غير الواضح، الذي قال نصر الله إنّه أصاب مركزاً أمنيّاً إسرائيلياً في ضواحي تل أبيب، من دون أيّ إثبات مصوّر.

وأمس، خلال استقباله الحكومة الجديد، ألمح المرشد الإيراني علي خامنئي إلى إمكانية العودة للمفاوضات النووية مع أميركا، حين قال: “لا تعقدوا الأمل على الأعداء ولا تنتظروا موافقتهم للمضي في برنامج البلاد”. وأضاف بعدها: “لكنّ ذلك لا يتناقض والتعامل مع هذا العدو نفسه في مكان ما، لكن لا تثقوا به”. هذا “التعامل” الأرجح المقصود به التفاوض مع أميركا. وقد يكون هذا الباب الذي فتحه خامنئي لحكومته الجديدة أحد نتائج التفاوض الإيراني الأميركي المذكور إعلاه. وقد يكون أحد ثمار الردّ المحدود من حزب الله على اغتيال فؤاد شكر، وتأجيل الردّ الإيراني وردود بقية أذرع إيران في المنطقة. أذرع “وحدة الساحات”.

أميركا حذّرت إسرائيل؟

في الخطاب أيضاً اعتراف بأنّ إسرائيل بدأت بالقصف فجر الأحد الفائت. يقول نصر الله: “قبل نصف ساعة من توقيت عمليّتنا بدأ (الإسرائيلي) بالغارات في جنوب لبنان، ‏سواء في جنوب الليطاني أو في شمال الليطاني. وهذا دليل على أنّه لم تكن لديه معلومات استخبارية وإنّما هو “حسّ” ‏على الحركة. لأنّه مستيقظ ويقظ وحذر ليلاً ونهاراً. وكلّ الإمكانات والقدرات الفنّية الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية والغربية والأرضية والسمائية والبحرية والهوائية في خدمته. بالنهاية قبل ساعة من بدء العمل، كان هناك عدد كبير من المجاهدين، سواء في جنوب الليطاني أو في شماله، سيتحرّكون ويذهبون إلى المرابض وإلى المنصّات ويقومون بوظيفتهم. هو شعر بتلك الحركة. لذلك شنّ هذه الغارات… وهو لا يملك معلومة استخبارية”.

ينتهي حديث نصر الله بهذه الكلمات الواضحة: إسرائيل بدأت القصف. لكن هل فعلاً “حسّت”؟ ربّما. لكنّ هناك احتمالاً بأنّ “المُخرِج” الأميركي قد يكون حصل على معلومة من إيران، حول توقيت الردّ. وهذه المعلومة كانت “تبرم”، وتخرج على ألسنة سياسيين (مروان حمادة على MTV) وإعلاميين (سامي كليب على منصّة X). هؤلاء توقّعوا “حرباً خلال ساعات أو أيّام”، قبل ساعات من العملية.

أمّا “أكسيوس” الأميركية فنقلت أمس الأول عن “مسؤول إسرائيلي كبير” أنّ “الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالضربة الإسرائيلية”. ونقل الكاتب باراك رافيد عن “مسؤولين” أنّه “صباح السبت، أشارت معلومات استخبارية إلى أنّ الحزب قرّر شنّ هجوم كبير على إسرائيل يوم الأحد في الساعة الخامسة صباحاً بالتوقيت المحلّي”.

نصر الله أضاف: “ما حصل هو عدوان وليس عملاً استباقياً. وإذا أردنا أن نفترضه عملاً استباقياً، فهو لم يترك أيّ أثر على الإطلاق على عمليّتنا العسكرية. لا على صواريخها ولا على مسيّراتها ولا على مجاهديها ولا على مقاتليها. نحن في كلّ العملية اليوم إلى حين عبور المسيّرات وإطلاق كلّ الصواريخ وعلى الرغم من كلّ القصف الذي شمل ودياناً كثيرة، لم يرتقِ أيّ شهيد… بعد انتهاء العملية قام العدوّ بقصف عدد من الأماكن، ما أدّى إلى ارتقاء شهيد من حركة أمل من إخواننا الأعزّاء وارتقاء شهيدين للحزب”.

فهل أعطت أميركا إسرائيل معلومات من إيران حول توقيت الردّ، وكان الاستنفار الإسرائيلي مكمّلاً لهذه المعلومة، وحين شعر الإسرائيلي بحركة غريبة في الجنوب، شنّ هجومه الاستباقي الذي سبق أن ناقشته حكومة إسرائيل؟

أميركا ومعادلة:WIN – WIN

مسؤول في البنتاغون أبلغ “فرانس برس” أمس الأوّل أنّ “أميركا ساعدت في رصد وتعقّب هجمات الحزب فجر الأحد”. فهل كانت المساعدة بمعلومة إيرانية لمنع نشوب حرب واسعة، وتحديد إطار الردّ وحصر الردّ الإسرائيلي عليه، خصوصاً أنّه بعد ساعات كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أنّ “إسرائيل بعثت لعدّة أطراف رسائل مفادها أنّ العملية العسكرية ضدّ الحزب انتهت في هذه المرحلة ما لم تحدث مفاجآت”؟

بعدها خرج نصر الله ليعلن: “نحن نعتبر أنّ عملية الردّ على اغتيال الشهيد القائد الحجّ محسن السيد محسن واستهداف الضاحية قد تمّت”. وهو إعلان صريح بأنّ “المعركة الكبرى انتهت احتمالاتها”. وأضاف: “إذا لم تكن النتيجة في نظرنا كافية فسنحتفظ حالياً لأنفسنا بِحقّ الردّ حتّى وقت آخر. “خلّي الناس يريّحوا أعصابهم”. من يُريد أن يرجع إلى بيته فليعُد إلى بيته… بالمرحلة الحالية البلد يستطيع أن يأخذ نفساً ويستطيع أن يرتاح. وعلى كلّ حال العدوّ أعلن، وإن كُنّا لا نأمن من غدره، أنّ ما جرى اليوم انتهى، ونحن بالبيان الثالث أيضاً أعلنّا انتهاء العملية”.

فهل حصل الحزب على ضمانة أميركية من إسرائيل بعدم استهداف ضاحية بيروت الجنوبية مجدّداً، مقابل هذا الردّ غير المؤذي؟

في كلّ الأحوال، نتنياهو أيضاً اعتبر أنّه انتصر بـ”الهجوم الاستباقي”. وهكذا خرج الطرفان رابحين.

نهاية أسطورة “توازن الرّعب”

يبقى اعتراف ثالث قدّمه نصر الله أمس الأوّل. وذلك بعد نهاية وعود “الصلاة في القدس”، وتراجعه عن قوله: “أرى مشهد الناس يحضّرون حقائبهم لدخول فلسطين”، وإعلانه في خطاب سابق أنّ المرحلة الحالية لن تشهد إزالة إسرائيل. فهو أقرّ بما هو معروف، وتراجع عن سنوات من التسويق لوجود “توازن رعب”. وقد حان الوقت، بحسب توقيت الحزب، للتعميم في أوساط البيئة الشيعية أن لا وجود لهذا التوازن، خصوصاً بعد مذبحة غزّة وتدميرها بالكامل أمام عيون محور المقاومة وإيران وميليشياتها الكثيرة في المنطقة.

نصر الله قال بوضوح أيضاً: “ولا يوم نحن تحدّثنا عن توازن عدد بيننا وبين الإسرائيلي. للأسف بعض المثبّطين في لبنان يكذبون مثل الإسرائيلي. ولا يوم تحدّثنا عن توازن عدد. ولا يوم تحدّثنا عن توازن سلاح. ولا يوم تحدّثنا عن توازن قدرات جوّية أو قدرات صاروخية أو قدرات عسكرية أو قدرات فنّية. هذه إسرائيل في ظهرها أميركا وحلف الناتو. لكن كُنّا نتحدّث عن توازن يصنعه الدم ويتغلّب فيه على السيف…”.

إذاً لا تحرير للقدس ولا تحرير لفلسطين وليس الوقت مناسباً لإزالة إسرائيل.

والتفوّق الإسرائيلي محسوم، عسكرياً وعدديّاً وفنيّاً.

والحزب أخلى جنوب لبنان من الصوارخ الدقيقة والبالستية.

وأميركا ساعدت إسرائيل في استباق ردّ الحزب قبل يومين.

هذه عناوين تأسيسية للمرحلة المقبلة.