المصدر: نداء الوطن
الكاتب: لوسي بارسخيان
الثلاثاء 18 تشرين الثاني 2025 07:42:40
وسط طموحات إنمائية أيقظتها الانتخابات البلدية الأخيرة في مختلف القرى والبلدات، لم يتوقع مدركو واقع البلديات، ومالياتها التي انهارت كودائع كلّ اللبنانيين، أن تحمل مجالسها الجديدة عصيًّا سحرية للانطلاق بورش التطوير المنتظرة منذ سنوات. لم يكن هذا ما يعوّل عليه، أقلّه في الأشهر الستة الأولى من ولاية انطلقت بميزانية وضعتها المجالس السابقة. ولكن بقي هناك ما يسمح بتلمّس تغيير ما، في النهج، أو في دينامية العمل.
انطلقت معظم المجالس البلدية بحماسة. وحاولت أن تكون على قدر خيارات الناخبين. لكن حيويّتها ما لبثت أن اصطدمت بالواقع. فحُبس الحماس داخل وسائل التواصل الاجتماعي، عبر منشورات من الـ live أو الـ reels وثق بعضها لمخالفات قمعت، وأنظمة طبّقت، وقرارات اتخذت، ولكن معظمها لم يكتسب الجديّة المرجوّة بالنسبة للناخبين. فاكتفى بعضهم بها وسيلة لإثبات صحّة خيارهم، وآخرون لتأكيد خطأ خيارات سواهم. وبقيت الحاجة أعمق إلى إرادة تنظيمية مستدامة.
ذاب الثلج وبان المرج... فأين الدولة؟
عادت معظم المجالس حاليًا إلى الواقعية. "ذاب الثلج وبان المرج" كما يقال. لا أموال لمشاريع كبرى. وبانتظار ما ينفذ منها بتدخل مركزي مباشر، فإن المتوفر من الميزانيات أو حتى الهبات التي قد ترد عبر أفراد، مؤسّسات أو هيئات، قد لا يكفي سوى لإضاءة بضع لمبات هنا، وإنشاء مستديرة هناك، وردم حفر، وتنظيف مجرور، لكنه بالتأكيد لا يبني مجتمعًا متساويًا بالواجبات والمسؤوليات، ولا علاقة مواطنية قائمة على بناء المؤسّسات، وفي طليعتها البلديات.
يُلام اللبنانيون بأنهم حين يهاجرون إلى أوروبا أو أميركا أو الخليج يلتزمون بالقوانين من دون تردّد. ولكن ما إن تطأ أقدامهم أرض لبنان حتى ينقلب سلوكهم المدني رأسًا على عقب. فهل يجوز تحميل المواطن وحده مسؤولية هذا التحوّل؟ وكيف نتوقع أن يستقيم سلوك الأفراد في ظلّ غياب شبه كامل لسلوك الدولة؟
ملامح دولة تعمّق الشعور باللامساواة
قد تختصر القصة في خط أصفر ألزم المارّة على مسافة لا تتجاوز الكيلومترين من طريق عام شتورا في وسط البقاع، بأنظمة السير. هو خط بسيط ظاهريًا، لكنه يجسّد عمليًا خلافًا عميقًا في ترجمة مفهوم العمل العام حتى داخل المؤسّسة الواحدة. وهذا ما جعل من الخط نموذجًا لإمكانية نجاح الدولة متى حضرت، وبالتالي فشلها عندما تغيب.
لطالما عُرف البقاع بأنه منطقة حاضنة نسبةً عالية من الفوضى والمخالفات. ومع أن قراه تتكامل في حرمانها من خدمات "الدولة"، فإن هذه المخالفات تتفاقم أو تنحسر بالتناسق مع "كانتونات" السياسة الحاضنة لمجتمعاتها، بدءًا بأقصى شمال محافظة بعلبك – الهرمل، وحتى آخر بلدة في وسط البقاع وامتدادًا نحو البقاع الغربي. فتتفاقم حيث الرايات الصفراء تعلن غلبة الدويلة، وتتقلّص حيث يرتفع العلم اللبناني، أو يتهيّأ ليرتفع على أعلى سارية، بينما تسود بعض المجتمعات ازدواجية في الانتماء، تبرّرها اصطفافات السياسة، وما سمحت به من اعتداءات على الأملاك العامة، بصور أو شعارات لا تمت بصلة لمفهوم السيادة. وهذا ما يحوّل الملامح البسيطة لحضور الدولة في بعض المدن والقرى، أداة لمعايير غير متساوية في تطبيق القانون الواحد على أبناء البلد الواحد. فتصبح المخالفات في مكان ما، مسكوتًا عنها في مكان آخر، ويصير التعدّي على القانون هنا، واقعًا مفروضًا هناك. لتبني هذه المشهدية طبقة فوق الجغرافيا، تحدّد أين تبدأ الدولة وأين تنتهي.
حين يتقدّم الولاء السياسي أو العشائري على الكفاءة
البقاعيون مسؤولون عن هذا الواقع بالطبع. ومع أن معظمهم يشكون من بلديات تُنتخب ولا تنجِز في معظم الأحيان، فإن أداءهم انتخابيًا هو ما يؤدي إلى ذلك، من خلال تقديم الولاءات السياسية، أو حتى العشائرية، على اختيار من يريد أن يخدم فعلًا. وهذا ما يترك معظم القرى في واقع سيّئ، لينعكس غياب الدولة ليس فقط بغياب خدماتها، إنما أيضًا بغياب قوانينها الرادعة، وحتى أنظمتها المفروضة.
يتجلّى هذا الغياب بشكل واضح على طرقات البقاع. حيث مشاة يجتازون الأوتوسترادات الواسعة ويعرضون سلامتهم وسلامة العابرين بسياراتهم لخطر الحوادث المتكرّرة. مرور بعكس السير، من دون أي محاسبة، سرعات تتفاوت بين 20 و 200، مطبّات وحفر تظهر بلا سابق إنذار، مستديرات تُحسم الأفضلية فيها لمن "يطاحش"، غياب الإشارات، إنارة معطّلة، مشاريع طرقية عشوائية... وهذه وغيرها، توقع المنطقة في فوضى لا تهدأ، ربما يختزلها واقع طريق ضهر البيدر، الشريان الرئيسي الذي يربط محافظة البقاع بالعاصمة بيروت، حيث الفوضى ليست تفصيلًا تقنيًا، بل إعلانًا واضحًا بأن الدولة غير موجودة، وأن طيفها الذي يلوح بين حين وآخر لا يكفي لإكسابها هيبة الردع. ما يترك أبناء المنطقة لتسيير أمورهم بالموجود، و "الشاطر بشطارته". فماذا لو تُرجمت الشطارة الفعلية باستعادة الدولة بكامل هيبتها.
ممنوع قضاء الحاجة في منطقة الخط الفاصل الأصفر
تجربة انطلقت من شتورا هذه البلدة الصغيرة في البقاع التي تشكّل نقطة عبور حيادية، تمثل لبنان بتنوّعه، وتُحاط بتناقضات في السياسة تجعل من حضور الدولة تحدّيًا يوميًا. ومع ذلك كسرت شتورا منطق "الكانتون" وانتزعت الفضاء العام من سطوة الشعارات. فتحوّلت حاضنة أعمال صغيرة، تُختبر فيها القوانين وقدرة الدولة على فرض هيبتها عندما تتوفر الإرادة. وتحوّلت مع مستديرتها إلى مساحة خضراء تشبه رؤيتها عن دولةٍ ممكنة.
قبل أسابيع ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصورة شاركها رئيس بلدية شتورا ميشال مطران، لرجل ضبط "بالجرم المشهود" وهو يقضي حاجته على طرف الطريق العام. انقسم الناس بين من أيّد تعقبه قانونيًا عبر تحرير محضر ضبط به، ومن لم يستسغ نشر صورته، ومن لام غياب المراحيض العامة. فتحوّل "سلوك البلدية" إلى مادة جدل تلقفتها لتثبت عزمها على تطبيق إرادتها في جعل ممرّ البقاعيين بهذه المنطقة "نموذجيًا".
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي تثير الجدل بل استخدمت البلدية وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة ردع تقوم على فضح أي مخالفة ترتكب في نطاق البلدة، مع استخدام الحق بتغريم الناس متى تكرّرت مخالفاتهم. أزالت التعدّيات بالصور والشعارات على الأماكن العامة. نظمت السير، وعززت النقل العام، أطلقت حملة للفرز المحلي للنفايات، لاحقت مخالفي إشارات السير، وغرّمت من يرمي ولو محرمة من السيارة. فرضت شروطها في تنفيذ المشاريع العامة، وحرّرت ضبطًا حتى بمؤسسة مياه البقاع عندما خالفت معاييرها.
المجتمع يستعيد "وهرة" الدولة
ما تحقق أن المارّين في شتورا، من كل "كانتوناتهم"، التزموا بالقانون فيها. السائق تأدّب. الدرّاج وضع الخوذة. وأهل القرى المجاورة غيّروا سلوكهم المتمرّد على الأنظمة. فحبسوا حاجاتهم حتى الجسديّة إلى ما بعد خروجهم من "منطقة الخط الأصفر". وهكذا بدأ الناس يخافون من رمي ولو محرمة في الشارع، ليس فقط لأن الشرطي قد يحرّر ضبطًا، بل لأن الفعل صار مدانًا اجتماعيًا أيضًا. وهذا ما سمح للمجتمع أن يساعد الدولة في استعادة "وهرتها" ومن دون ميزانيات ضخمة. وثبّتت شتورا أنه حين تُطبَّق مبادئ المحاسبة بشفافية وعدالة، يولد فعلًا سلوك جديد عند المواطنين.
المواطن ينتظركم بفارغ الصبر
مع أن "زيح" شتورا ينقطع بوسط الطريق ما إن ينتهي نطاقها سواء من جهة تعلبايا - سعدنايل، أو طريق المصنع- برالياس، أو جديتا - المريجات، فهو لم يشح النظر عمّا تشكّله البلديات من جسر يقرّب مفهوم الدولة من المواطن. إلّا أن ذلك لا شك يتطلّب الانتقال بإدارتها من عقلية الزبائنية الانتخابية إلى عقلية بناء المؤسسات. حتى تتمكن البلديات من المضي بعملها إلى أبعد من تزفيت حفرة أو إنارة مصباح، نحو بناء الدولة بدءًا بالقاعدة.
ومع ذلك، يبقى تعميم هذه التجربة نحو سلوك بلدي شامل، بحاجة إلى دعم مركزي فعلي، وإلى تعاون اتحادات بلديات قوية، وإلى صلاحيات أوسع تعطى للبلديات، وتمويل مستقر. وإلّا فإنه بدون هذا التكامل، يمكن أن يتحوّل تساؤل اللبنانيين عن سر نزعة اللبنانيين للالتزام بالقوانين إلّا في بلدهم، إلى تساؤل عن سبب التزام الناس بقوانين وأنظمة بلدهم في شتورا، ولا يعيرونها أهمية حتى في أقرب محيطها.
الكلّ في لبنان يتحدثون عن بناء الدولة. ولكن الدولة ليست مقاولًا أو شركة خدمات. بل قد تكون مجرّد خط مرسوم بإتقان يحدّد الحقوق والواجبات. وبناؤها قد ينطلق بنقطة ضوء في بقعة صغيرة، يمكن أن تنيرها كل بلدية تقرّر أن تكون دولة حيث تغيب الدولة. فجرّبوا أن تحضروا كدولة… وستكتشفون أن المواطن ينتظركم بفارغ الصبر.