وثيقة وطنية للمناقشة في بكركي: "دولة مدنية لامركزية حيادية"

يتبنّى الصرح البطريركي في بكركي ترسيخ السبيل المكانيّ والزمانيّ الهادف إلى مناقشة مضمون وثيقة يراد منها بحث الأفكار الممكنة إنهاءً للشغور التعطيليّ المزعزع للكيان اللبناني الدستوري، بعدما كان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أخذ على عاتقه الثناء على الورقة المبلورة نحو "دولة مدنية لامركزية حيادية" والتأكيد أنّ تنفيذها يسهم في إيجاد حلّ عوضاً عن المؤتمر الدولي.

وكانت النقاط التي تمحورت حولها التفاصيل اقترحت تنظيم بعض المواد الدستورية بهدف تحسين إدارة النظام والمؤسسات الدستورية والحدّ من عرقلة عملها. وحرصت على أهمية تحقيق اللامركزية الإدارية والإنمائية الموسعة وخلق مجالس الأقضية وإعطائها صلاحيات إدارية وإنمائية ومالية واسعة. ولم تغفل مبادئ الكفاية والخبرة والاستقلالية كمعايير أساسية في الإدارة المركزية وتحرير الوظائف من الطائفية والمذهبية والتبعية السياسية.

وإذ نقّحت مضامين الوثيقة الأساسية عبر ناشطين سياسيين اجتمعوا تحت مظلّة "لقاء الهوية والسيادة" برئاسة الوزير السابق يوسف سلامة، فإنّ المسعى الحواريّ لمناقشتها وبحث إمكان تطويرها الذي يستضيفه الصرح البطريركي في 29 شباط سيضمّ مختلف الكتل النيابية. وكان أعضاء من اللقاء جالوا في مرحلة سابقة على الأحزاب السياسية والتقوا نواباً من تكتلات متنوعة، الذين منهم أثنوا على ما تضمّنته الورقة واعتبروا أن طروحاتها تتلاءم مع أفكارهم خصوصاً من ناحية تطبيق اللامركزية الإدارية والإنمائية وأسس الدولة المدنية الحيادية في آن.

وكان لافتاً ما اقترحته الوثيقة لناحية إلغاء مذهبية الرئاسات وتحبيذها إنشاء مجلس شيوخ يتألف من ستين عضواً عن المجموعات الطائفية والعائلات الروحية اللبنانية، مع تحديد صلاحياته ونصابه والأكثرية المفروضة لاتخاذ مقرراته على أن تنحصر الصلاحيات في القضايا المصيرية والتصديق على القوانين التي يقرّها المجلس النيابي والتي يمكن أن تؤثر على ميثاق الحياة المشتركة ووحدة الدولة ومؤسساتها وضمان الحريات والمساواة بين المواطنين والالتزام بالحياد. ونصّت الورقة على إضافة صلاحيات إلى موقع رئاسة الجمهورية منها حقّ حلّ مجلس النواب بعد موافقة مجلس الوزراء ضمن ضوابط قانونية ودستورية، تحديد مهلة شهرين كحدّ أقصى لتشكيل الحكومة واعتبار الرئيس المكلّف معتذراً إذا تعذّر عليه التأليف خلال شهرين علماً أنه عند انتهاء المهلة يحقّ للرئيس المكلّف تقديم تشكيلته الحكومية إلى مجلسي النواب والشيوخ للاجتماع حكماً خلال عشرة أيام على الأكثر فإذا نال الأكثرية المطلقة يلزم رئيس الجمهورية إعادة تكليفه وإصدار المراسيم. وطرحت إقرار قانون انتخاب جديد للمجلس النيابي يحدّد عدد الأعضاء في ستّين نائباً أصيلاً وستّين نائباً رديفاً لا يتلقّون رواتب أو مخصّصات ويتوزّعون بالتساوي على الأقضية التاريخية خارج أي قيد طائفي. وحثّت على إقرار قانون دستوري يتيح انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب بالاقتراع العام المباشر وعلى درجة واحدة على أن يكون المرشح لبنانيّاً مسيحيّاً ومنتخباً في مجلس الشيوخ وأن ترشّحه كتلته ويجمع تواقيع ستة عشر عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ على أن لا يقلّ عدد تواقيع المسيحيين عن 8 وفي حال تعذّر ذلك يترشّح أول اثنين بالعدد الأكبر من التواقيع.

في غضون ذلك، يقول الوزير السابق يوسف سلامة "إن عناصر "لقاء الهوية والسيادة" ليسوا مع الأفكار الفيدرالية التي تطرح بل إنّ الوثيقة التي ينطلقون منها تؤكّد على اللامركزية الإدارية والإنمائية الموسّعة حمايةً للتنوّع وتدعم سياسة خارجية بعيدة عن الانخراط في الصراعات والحروب من دون أن تغفل المواقف المؤيّدة للقضايا المحقّة". ويوضح لـ"النهار" أن "الهدف يكمن في التوصل إلى لامركزية إنمائية ومالية وإدارية تحدّ من الفساد في قطاعات الدولة وتسهم في بلورة المناطق مشاريعها الإنمائية بنفسها على أن تقتطع نسبة من الضرائب والرسوم من الأقضية لمصلحة الدولة المركزية، علماً أن عناصر اللقاء لم يدرسوا حتى اللحظة الهامش المالي الذي يمكن تخصيصه للأقضية والمناطق ما يحتاج مشاورات لاحقة". ولا يغيب عن انطباعاته أن "النموذج المبدئي الذي وضع شكّل أساساً حصل التداول به مع قوى سياسية متنوعة أثنت على مضمونه، ولماذا لم تلقَ الورقة أصداء رغم مرور أشهر على إقرارها خلافاً لاقتراحات مقابلة؟ يجيب رئيس "لقاء الهوية والسيادة": "إنّ عناصر اللقاء لا يملكون المال أو السلطة رغم الأهداف الوطنية لبلورة هكذا طروحات منذ عام 2007 برعاية البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير. وتبثّ محطة mtv اللبنانية التحرّكات الهادفة في سبيل تنفيذ الوثيقة انطلاقاً من مبادئها السيادية والوطنية". ويستنتج أن "دعوة النواب إلى بكركي هادفة للعمل على إعطاء ملاحظاتهم حول الورقة بناءً على طلب البطريرك الراعي الذي تبنّى الوثيقة وطرح فكرة اجتماع برلمانيين من التكتلات النيابية في الصرح البطريركي للتداول في بنودها".

 

في المحصلة، يشكّل السعي إلى اللامركزية الموسعة والمؤسسات الدستورية من أهم الأهداف المتوخاة في الرؤية التي نقّحها عناصر "لقاء الهوية والسيادة"، على أن تسهم القيادات الوطنية المؤمنة في هذه القواعد في إعادة توحيد الدولة المفكٍّكة وتدعيم المؤسسات الدستورية والإدارية الوازنة على نطاق الدولة المركزية أو المناطق المتحدة وإقرار القوانين الضرورية. ولا تغفل الرؤية أيضاً مشاركة اللبنانيين المنتشرين في العالم في الحياة الوطنية والسياسية عبر احترام حقّهم في الترشح والاقتراع في أماكن إقامتهم عن الأقضية المسجّلين فيها وفق القوانين التنظيمية. وتحبّذ تدعيم الدولة المدنية وإلغاء مذهبية كلّ من مراكز رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب ومجلس الشيوخ، على أن يحصر منصب رئيس الجمهورية بين المذاهب المسيحية ويحصر منصب رئيس الحكومة ومركز رئيس مجلس النواب من دون تمييز بين المرشحين السنة والشيعة والدروز والأقليات المسلمة. ولا يحقّ لأي مذهب أن يحتكر رئاستين من بين الرئاسات. فهل تكون بلورة اقتراحات كهذه ممكنة في مرحلة مستقبلية؟