ورقة حكوميّة تحاول تبيان الأضاليل وتكشف عمليات احتيالية

منذ بداية الأزمة، تعدّدت الأوراق البحثيّة التي حاولت تشريح كتلة الخسائر المتراكمة في الميزانيّات المصرفيّة، وتبيان طريقة تبديد الأموال المودعة في القطاع المصرفي. ومعظم هذه الأوراق، حاولت تبيان الأضاليل التي حاولت تسويقها جمعيّة المصارف، والتي كانت تخلط عن عمد ما بين أزمة الدين العام من جهة، والخسائر التي نتجت عن العمليّات الاحتياليّة التي جرت بين المصارف التجاريّة ومصرف لبنان من جهة أخرى. بمعنى آخر، كانت جميع هذه الأوراق العمليّة تجمع على أنّ نموذج البونزي الاحتيالي، وما نتج عنه من ضياع للودائع، لا يتّصل بتوقّف الدولة عن سداد سنداتها. وهذا بخلاف ما سوّقته جمعيّة المصارف دائمًا، في محاولة لتحميل الدولة -أي الشعب، دافع الضرائب والرسوم- عبء الخسائر التي تسبب بها.

خلال الأيّام الماضية، وجّه مستشار رئيس الحكومة سمير ضاهر ورقة لمجلس النيابي، لتفصيل حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّات مصرف لبنان والحكومة، وتبيان مصادرها وطريقة تراكمها. ورغم أنّ ما قدّمته الورقة من خلاصات مشابه لما توصّلت إليه الأوراق البحثيّة السابقة، إلا أنّ أهميّة الورقة تكمن في توثيقها هذه الحقائق والمعطيات لأوّل مرّة بمراسلة رسميّة، وبناءً على أرقام مصرف لبنان نفسه. وهذا تحديدًا ما يتّسم بأهميّة خاصّة في سياق تبيان الأضاليل التي غالبًا ما يتم تسويقها بشكل ممنهج ومتعمّد عبر وسائل الإعلام، على مشارف البت بكيفيّة توزيع هذه الخسائر.

 

الخسائر: هذا ما علينا وهذا ما تبقّى

قبل الدخول في مصادر الفجوة، تبدأ الورقة بتحديد طريقة احتسابها. ما يترتّب على المصارف من إلتزامات للمودعين، تقارب قيمته 93.5 مليار دولار أميركي. في المقابل، ما تبقّى من أصول وموجودات سليمة في القطاع بأسره، سواء مع مصرف لبنان أو المصارف نفسها، لا تتجاوز قيمته 21 مليار دولار. هذا ما يولّد الخسارة التي تقدّرها الخطّة اليوم بحدود 72.5 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ كتلة الخسائر هذه تشمل كل ميزانيّات القطاع، بما فيها من إلتزامات وموجودات المصارف ومصرف لبنان المجمّعة معًا.

 

والدخول في تفاصيل ما تبقّى من موجودات، يوضّح التالي:

- يمتلك مصرف لبنان حوالى العشرة مليارات دولار، من الاحتياطات التي أودعتها المصارف لديه. وهذا الرقم يقل بنحو ثلاث مليارات عن الاحتياطي الإلزامي، الذي أودعته المصارف لدى مصرف لبنان، والذي يفترض أن يبلغ نحو 13 مليار دولار (14% من قيمة الودائع).

- تمتلك المصارف نحو أربعة مليارات دولار من التوظيفات الخارجيّة، أي الإيداعات لدى المصارف المراسلة الإجنبيّة والاستثمارات الأجنبيّة.

- تمتلك المصارف ستّة مليارات دولار، هي محفظة القروض الممنوحة للقطاع الخاص، التي لم تتعثّر بعد.

- تقتصر قيمة سندات اليوروبوند المملوكة من القطاع (سندات الدين المترتبة على الدولة بالدولار) على نحو مليار دولار فقط، إذا احتسبنا قيمتها السوقيّة الفعليّة.

 

خسائر المصارف التجاريّة المباشرة: 13 مليار دولار

تدخل الورقة في تفصيل توزّع كتلة الخسائر ما بين المصرف المركزي والمصارف التجاريّة. فمن أصل الفارق الأساسي، أي 72.5 مليار دولار، ثمّة 13 مليار دولار من الخسائر التي تراكمت في ميزانيّات المصارف التجاريّة وحدها، من دون أن يكون لعمليّاتها مع مصرف لبنان أي اتصال مباشر.

من هذه الخسائر، هناك على وجه التحديد ستّة مليارات دولار من الخسائر التي نتجت عن تدهور سعر الصرف، أي عن انكشاف المصارف على مخاطر العملة المحليّة. وتنتج هذه المخاطر في العادة عن وجود فارق ما بين الإلتزامات والموجودات بكل عملة من العملات (Currency Mismatch)، وهو ما تتحمّل مسؤوليّته إدارات المصارف بالدرجة الأولى. كما هناك خمسة مليارات دولار من الخسائر التي نتجت عن تعثّر القروض الممنوحة للقطاع الخاص، وهو ما تتحمّل مسؤوليّته أيضًا إدارة المحافظ الائتمانيّة في المصارف.

أمّا الخسائر التي نتجت عن تعثّر الدولة في سداد ديونها، أي سندات اليوروبوند، فلا تتجاوز الملياري دولار، نتيجة تراجع قيمة هذه السندات السوقيّة اليوم.

خسائر مصرف لبنان: 58.2 مليار دولار أميركي

الجزء الآخر من الخسائر، والبالغ 58.2 مليار دولار أميركي، نتج عن العمليّات التي جرت ما بين مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، وبصورة أدق: عن خسارة مصرف لبنان الأموال التي تم إيداعها لديه من قبل المصارف التجاريّة، بفعل عمليّاته مع المصارف. وهنا، تفنّد الورقة كيفيّة تصرّف مصرف لبنان بأموال المودعين التي تم توظيفها لديه:

- 10 مليار دولار من هذه الأموال ما زالت لدى المصرف المركزي كسيولة جاهزة للاستعمال.

- 20 مليار دولار نتجت عن الفوارق ما بين الفوائد التي دفعها وتلك التي حصّلها المصرف المركزي، بما فيها الأرباح التي حصّلتها المصارف من الهندسات الماليّة. ما يعنيه ذلك ببساطة، هو أنّ أكثر من ثلث خسائر مصرف لبنان هي عبارة عن أرباح ذهبت لمصلحة المحظيين المستفيدين من الهندسات والفوائد المرتفعة، من أصحاب مصارف وكبار مودعين.

- 35 مليار دولار ذهبت تحت عنوان "تثبيت سعر الصرف". مع الإشارة إلى أنّ هذا العنوان، الذي تذكره الورقة باقتضاب، يخفي الكثير من العمليّات المشبوهة التي تم استعمالها لبيع المحظيين دولارات المودعين بسعر الصرف الرسمي، بعد تشرين الأوّل 2019، تمامًا كما فعل المصرفي مروان خير الدين لمصلحة إبن حاكم مصرف لبنان. كما يخفي هذا العنوان عمليّات احتيالية منظّمة، جرت عبر استعمال أرباح الهندسات بالليرة لشراء دولارات المودعين، وتحويلها للخارج. ببساطة: عنوان تثبيت سعر الصرف كان جزءاً من المخطط الاحتيالي الذي جرى.

- 5 مليار دولار من القروض المدعومة من سكنيّة وتكنولوجيّة (كانت هذه القروض موضوع فضائح لا تنتهي).

- 5.2 مليار دولار نتيجة انخفاض قيمة سندات اليوروبوند التي يملكها مصرف لبنان.

- أمّا تمويل مصرف لبنان، فيقترض على 10 مليار دولار فقط! بخلاف كل البروباغندا المصرفيّة التي تربط ما بين كتلة خسائرها والإنفاق العام.

في خلاصة الأمر، يُظهر هذا التشريح بشكل واضح محدوديّة مسؤوليّة الإنفاق العام عن كتلة الخسائر المصرفيّة، والتي تبالغ المصارف في ربطها بأزمتها، للذهاب باتجاه توزيع مختلف للخسائر، يحمّل الدولة والمال العام كلفة رسملة المصارف. وخلاصات هذه الأرقام لا تعني تبرئة المسؤولين حتمًا عن مسؤوليّة هدر المال العام، والتسبب بتضخّم الدين العام وتعثّر الميزانيّة العامّة. إلا أنّ هذه الأرقام تحول دون تملّص المصارف من مسؤوليّتها في تبديد أموال المودعين، عبر مخطط البونزي الاحتيالي الذي بدد الودائع الموجودة بالدولار الأميركي، وهذه كانت أزمة بحد ذاتها.