ورقة "وقف النار" تحرق "الأخضر واليابس"

"احتراقٌ مبكّرٌ" لمقترَحِ وَقْفِ النار الذي تبلّغه لبنان عبر الولايات المتحدة، أو تثبيتٌ لـ "قواعدِ اشتباكٍ" ستَحْكُمُ مرحلةً هي الأخطر من "التفاوض تحت النار" حتى حصول "الاختراق المتأخّر"، قليلاً وربما لِما بعد 20 كانون الثاني الأميركي... هكذا بدا المشهدُ أمس في لبنان مع سُحُبِ الدخان الأسود التي لفّتْ البلادَ من الجنوب والبقاع إلى ضاحية بيروت الجنوبية بزنارٍ من غاراتٍ ومواجهاتٍ ضاريةٍ في الميدان وكأن الحربَ بدأت للتوّ أو أنها على مشارف نهاياتٍ لن تطلّ إلا بعد أن تخرج أبشع الفظائع من "صندوقة باندورا" التي فُتحت بالكامل قبل شهرين بالتمام والكمال.

وفي الوقت الذي انشدّت العيون إلى الردّ الذي يعدّه لبنان الرسمي - ومن "خَلْفِ الستارة" إيران عبر "حزب الله" - على المسودة التي حملتْها السفيرة الأميركية في بيروت ليزا جونسون إلى رئيس البرلمان نبيه بري لاتفاق وقف نار من 13 بنداً، وسط تقديراتٍ بأن يكون الجواب جاهزاً خلال الساعات الـ 48 المقبلة وبلغةِ "لعم" في كل نقطة – لغم تفادياً للظهور في موقع مَن "ضَغَطَ على زرّ" تفجير الحلّ، إذا كان هذا هدف بنيامين نتنياهو، فإن "القلبَ" كان على مناطق ومدن تُحرَق وتُدمّر وضحايا يَسقطون في كل مكان، في جولةٍ يُخشى أنها الأكثر وحشيةِ من الحرب الطاحنة في الميدان كما الأكثر شراسة في مفاوضاتٍ مرشّحة لفصولٍ من الأخذ والردّ... فوق الجمر.

... من مدينة صور ومحيطها التي احتجبَ كل تاريخها ومعالمها التراثية والسياحية وراء جدارٍ من دخان غاراتٍ مكثّفة وبعضها مُتزامِن و«متعدد الرأس» (عدد الصواريخ) قَسَتْ على «سيدة البحار»، بالتوازي مع تعميق الجيش الإسرائيلي عملياته البرية في نطاقٍ غير بعيد عنها من ضمن مرحلةٍ جديدةٍ من «اختراقاتٍ» ومحاولات توغّلٍ بهدف «المحاصَرة» (لوحدات حزب الله) أو «الضرب والخروج» وليس بالضرورة أن تشمل هذه المرة كل الحدود الجنوبية (من الناقورة إلى شبعا)، إلى الضاحية الجنوبية التي انهمرتْ عليها الغارات التدميرية من ساعات الصباح الأولى مع تركيزٍ مستجدّ على منطقة الشياح أيضاً، مروراً بالبقاع خصوصاً بعلبك التي مازالت في عين الاعتداءات الدموية وليس آخرها في بلدة الخريبة (سقط ما لا يقل عن 5 أطفال في إحدى الغارات)... شريطٌ مُرْعِبٌ من استهدافاتٍ هي الأعتى في موجات التصعيد الذي يُخشى هذه المرة أن يكون تمهيداً لـ «تسونامي» يسبق الحلّ الآتي ولو بعد حين.

وفيما كانت الشاشاتُ لا تتسع لمشاهد الدمار الذي «يمتطي» طائراتٍ تضرب بلا هوادة، ولا لـ «عواجل» إنذاراتِ الإخلاء المتوالية لعشرات القرى في الجنوب والأبنية في صور، وصولاً إلى الضاحية الجنوبية وأطرافها، أبدت أوساط واسعة الاطلاع قلقها البالغ من المناخات التي عوض أن تكون متحفّزة لردِّ لبنان وإسرائيل على مقترح الحلّ وكيفية سدّ الفجوات، إذ بها تتمحور حول محاولاتٍ لتقديم التحفّظات حول المسودة وبعض بنودها «التي لا تمرّ» في شكل «ينفض اليد» من المسؤولية عما سيأتي بعد انقشاع أن المقترح لا حظوظ له كما هو، وأن تدوير زواياه يحتاج لمزيدّ من «الكيّ بالنار».

وفي حين استغربت الأوساط الجو الذي أشاع أن ثمة انتظاراً لجواب إسرائيل على المقترح، في الوقت الذي يُفترض أنها صاغت مع الولايات المتحدة المسودّة، وإلا ما سرّ كل الكلام عن اتفاقٍ مع واشنطن على صيغةٍ إبان محادثات رون ديرمر فيها، أعربت عن الخشية من أن يكون «سيناريو غزة» التفاوضي يتكرر مع لبنان بحيث يطرح الأميركيون صيغةً هي «وليدة» تفاهُم مزعوم مع تل أبيب ليرتدّ عليها بنيامين نتنياهو أو تَسبقه «حماس» إلى حيث يريد أن ترفضها، فتتجدّد «فترة السماح» في الميدان.

من هنا، ترى هذه الأوساط أن مقترحَ الحلّ الذي ظهّر بري نقطتين رئيسيتين تحتاجان لنقاشٍ وإعادة نظر فيه، ليس جاهزاً بعد لعبور سريع من نفق المناورات وبالونات الاختبار وربما «الكمائن» التي أشيع أن لبنان الرسمي «تَحَسَّب» لها وسيقوم بتقديم جوابه في شكلٍ «لا يقفل الباب» على الحلّ بمقدار ما يفتح على أسئلة «مشروعة» حول «ما بين السطور» وربما العبارات المتروكة لـ «ملء فراغاتٍ» حمّالة أوجه.

وفي هذا الإطار ترى الأوساط نفسها أن تشكيل لجنة لمراقبة تنفيذ القرار 1701 التي وردتْ في المسودة ولا يسير بها لبنان والتي أفيد أنها يُراد أن تكون مولجة الإيعاز بالتدخل، عبر الجيش اللبناني المنتشر جنوب الليطاني بمؤازرة قوة «اليونيفيل» للتصدي لأي خرق أو معالجة أي شكوى و«إزالتها»، ليست مسألة تفصيلية، وأن ثمة فارقاً بين مثل هذه اللجنة وبين تلك الثلاثية التي تتولّى منذ 2006 الاجتماع دورياً في الناقورة لمناقشة الخروق للخط الأزرق والـ 1701، والتي لم يمانع بري توسيعها لتضمّ الولايات المتحدة وفرنسا ولكن «تحت المظلة» نفسها وإن مع إمكان أن تتخذ شكل مجموعة مراقبة تطبيق تفاهم أبريل 1996 (ضمّت حينها أيضاً سورية مع لبنان وإسرائيل وأميركا وفرنسا).

وبحسب الأوساط فإن لجنة الناقورة تضم ضباط ارتباط وهي أقرب إلى «صندوق شكاوى» تتولى معالجتها بالاتصالات، في حين أن اللجنة المطروحة لتكون «قائمة في ذاتها» (ويُقترح ضم ألمانيا وبريطانيا إليها وهو ما يرفضه بري مفوضاً من حزب الله)، فيتعيّن أن يكون لها إشراف على تنفيذ الـ 1701 بكل مندرجاته أي ليس فقط رقابة بل أن تنشأ مع آليات تنفيذية واضحة لمعالجة الشكاوى «من جذورها»، وإن بقي التنفيذ على عاتق الجيش اللبناني و«اليونيفيل» التي لا يسير لبنان أيضاً بتغيير طبيعة مهمتها وتوسيع صلاحياتها، رغم إسقاط طروحات قوة متعددة الجنسية لضمان تطبيق القرار 1701.

كما لا تقلل الأوساط مما يمكن أن يكون «مندساً» بين سطور عبارة «حق الدفاع عن النفس للطرفين إذا لزم الأمر» الواردة في المقترح، وسط خشية من أنها «تحايُل» على شرط «حرية الحركة والتصرف» لإسرائيل في لبنان للتصدي لأي تهديد وشيك أو في طور التشكُّل والذي جزم بري أنه غير وارد في المقترح، الأمر الذي يستوجب «استفساراتٍ» دقيقة جداً من بيروت في الردّ المنتظَر.

وترى هذه الأوساط أنه في ضوء سؤالِ رئيس البرلمان السفيرة الأميركية عما إذا كان هناك أي ملحق أو اتفاق جانبي بين واشنطن وتل أبيب يتضمّن «حق حربة الحركة والتصرف» لإسرائيل كما كان سُرب سابقاً، وهو ما نفته جونسون، فإن الانطباع يزداد في أن هذه النقطة تحديداً ستسلك، عندما يحين موعد الحل، مسار تفاهم ضمني وربما شفوي غير معلَن أميركي – إسرائيلي، على غرار التفاهم المكتوم بين تل أبيب وموسكو حول حرية تدخل الأولى في سورية ضد كل ما تعتبره خطراً على أمنها القومي ولا سيما شحنات الأسلحة لحزب الله أو أي بنية تحتية لصناعة الصواريخ أو تطويرها أو تخزينها.

وتذّكر الأوساط بأن إسرائيل لم تضرب مرة وحدات لحزب الله معنية بالقتال إلى جانب النظام السوري في حربه الداخلية، ولكنها لم توافر الحزب ولا إيران في غاراتٍ مازالت مستمرة ضد ما تراه تل أبيب تهديداً وشيكاً أو أبعد مدى لها، من دون إغفال أن دخول روسيا على خط وقف حرب لبنان الثالثة مازال مطروحاً كـ «ضامن» لمنْع إعادة تسليح حزب الله عبر الحدود مع سورية، وإن كان هذا الأمر يحتاج انتظار ما بعد تسلُّم دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض وإمكان تشابُكه مع ملفات أخرى عالقة دولياً مع موسكو.

لاريجاني وميقاتي

وليس روسيا وحدها في انتظار ترامب، بل إيران ايضاً التي تم التعاطي مع مواقف علي لاريجاني كبير مستشاري المرشد الأعلى السيد علي خامنئي من بيروت على أنها في إطار إبعاد أي شبهة عن بلاده في «نسف» مقترح الحل الأميركي، والذي يبارك مساره الرئيس الأميركي المنتخَب، وفي الوقت نفسه رسالة ضمنية لترامب بأن طهران التي جمعت أوراق قوتها و«فعّلتها» في مختلف الساحات تتحفّظ في استخدامها ريثما يقوم الرئيس الجمهوري بالخطوة الأولى تجاهها ويتبيّن كيف ستكون، وهل بنسخة 2017 – 2021 الأكثر تشدداً.

وكان لاريجاني، الذي لم يكتم ابتساماته خلال لقائه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي «متجهّماً»، أكد أنّ إيران تدعم أيّ قرار تتخذه الحكومة ولا سيما القرار 1701، و«الهدف الاساس والرئيس لزيارتنا أن نقول بملء فمنا نحن سنقف إلى جانب جمهورية لبنان حكومة وشعباً وفي كافة الظروف»، كاشفاً أنه اطّلع على المسوّدة التي تسلّمها لبنان، وقال إن فيها بنوداً إيجابية، ولكنّ القرار في النهاية يعود إلى الفرقاء اللبنانيين. كما أشار إلى أن إيران ستظل إلى جانب المقاومة.

وفيما حرص ميقاتي خلال استقبال لاريجاني على توجيه رسائل جديدة لإيران طالبها فيها بـ «عدم اتخاذ مواقف تولّد حساسيات لدى أي فريق من اللبنانيين وتكون لصالح فريق على حساب الآخَر»، مؤكداً «أن الحكومة اللبنانية تعطي الأولوية لوقف العدوان الإسرائيلي، والتوصل إلى وقف النار وتنفيذ القرار 1701 بحذافيره، من دون أي تعديلات أو تفسيرات مغايرة لمضمون القرار ومندرجاته»، لم يكن عابراً حصول إشكال مع وصول لاريجاني إلى مطار بيروت بعدما رفض فريق الحماية الأمني التابع للسفارة الإيرانية والذي حضر لمرافقته خضوعه للتفتيش ليصرّ رئيس جهاز أمن المطار على العكس ويصدر قراراً بقفل بوابات صالون الشرف ومنع عناصر المرافقة من الدخول إلا بعد أن يخضعوا للتفتيش وفق الترتيبات الأمنية الأخيرة التي اتُخذت بعد قرار مجلس الوزراء تسليم أمن المطار بالكامل للجيش وهو ما حصل.

ولم يقلّ دلالة رفْض وليد جنبلاط استقبال لاريجاني.

وأكدت صحيفة «الأنباء» الإلكترونية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي، أنها «المرة الثانية التي يرفض فيها جنبلاط لقاء مسؤولين إيرانيين بعدما كان أعلن بنفسه رفضه دعوة للقاء مسؤول إيراني رفيع المستوى في السفارة الإيرانية».