وزير العدل يدعو لمصارحة بين الإعلام والقضاء

تفتقر العلاقة بين وسائل الاعلام والسلطة القضائية إلى الثقة. وهي تتطلب توازناً دقيقاً لتحقيق أهداف الطرفين. وما يظهر واضحاً اليوم، أن لكل طرف رأيه الخاص، فالسلطة القضائيّة لا تنتقص من قدرة الوسائل الإعلاميّة على تحريك الرأي العام، لكنها تعترض على المسّ الشخصي بالقضاة والتعرض لهم وتسريب القضايا أمام الرأي العام. في المقابل، ثمة من يبرر أن السلطة القضائية مسيّسة، وهذا يدفع بوسائل الاعلام إلى الضغط بقوة على السلطة القضائيّة لعدم تحقيق أهداف السلطة السياسيّة. 
 
وانطلاقاً من أهميّة تعزيز جسور العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة القضائيّة، وتكريس الشراكة والثقة بينهما، نظمت وزارة العدل ندوة تحت عنوان "القاضي والإعلام"، بحضور عشرات القضاة ومجموعة من الصحافيين. وهي المرة الأولى التي تنظم فيها ندوات تهدف إلى جمع أكبر عدد من القضاة بالصحافيين للمصارحة ولمعالجة الخلل المسيطر على علاقتهما. 

وزير العدل
يؤكد وزير العدل عادل نصار، أن الحرية مصانة، لكن يجب التفكير أيضاً بضحايا القدح والذم وخصوصاً بعد أن يتم نشر الكلام المشوه ضدهم، حتى بعد انصافهم قضائياً، لكن الأثر المعنوي يبقى موجوداً. ويشير في تصريحات لـ"المدن" إلى أن "هدف هذه الندوة هو تحديد المسؤولية المشتركة على الطرفين، من أجل حماية كل فرد يتعرض لأي حملة، والخطوة الأولى هي المصارحة وعرض وجهات النظر"، لافتاً الى أن التوصيات تتلخص في تأمين حماية القضاء لحرية التعبير، وعلى الإعلام احترام الجسم القضائي وعدم التعرض له بالشخصي، وعلى القضاء والإعلام التعاون بشكل مهنيّ لحماية كرامة الناس مع ضمانة حق التعبير".

رئيس مجلس القضاء الأعلى
وفي رأي رئيس مجلس القضاء الأعلى، سهيل عبود، فإن العلاقة بين السلطة القضائية التي يمثلها كل قاض من خلال عمله وأحكامه وقراراته، وبين الإعلام الذي أصبح واقعاً بمثابة سلطة رابعة، هي علاقة تحمل الكثير من الإشكاليات، وذلك بسبب مقاربة الموضوع من ناحية مختلفة، ونتيجة لأن الأهداف لا تكون مشتركة أحياناً، وهنا تبرز ضرورة توصيف هذه العلاقة بهدف الوصول إلى تصور واضح. 

ويضيف في تصريحات لـ"المدن" أن المشترك بينهما هو "الحرية في قول الحق، والبحث عن الحقيقة". أما في المقلب الآخر، فإن الاعلام يتطلع دائماً إلى نشر ما هو معلوم منه بأكبر قدر ومساحة ممكنين، لكن القضاء يتعاطى مع العلنية كخطر على ضمان لحيادية المحاكمات، تجنباً لنشر مجرياتها، وذلك من باب حماية حق المتهم وسمعته قبل ثبوت إدانته، لأن المحاكمات العلنية التي تجري من قبل بعض وسائل الاعلام تخرق ضمانات التقاضي العادل، وتمس بالسمعة والكرامة. 

ويرى أن العلاقة ضبابية بين الطرفين، ونحن بحاجة إلى معرفة بعضنا أكثر، ومن الضروري أن نتناقش أكثر، وأن نصل في النهاية إلى وثيقة تحدد كيفية التعاطي مع بعضنا البعض انطلاقاً من تحديد الواجبات والحقوق، وهناك مسؤوليات على الطرفين". 

إشكالية متواصلة
ويبدو واضحاً أن الإشكالية الأساسيّة تكمن في رفض القضاة تسريب المعلومات المتعلقة بملفاتهم انطلاقاً من أهمية موجب التحفظ، مع اعتراضهم على أن تسريب محاضر التحقيقات يضر بالقضية التي يتناولونها، إذ يجب الإبقاء على سرية التحقيقات الى حين صدور الحكم النهائي.

من وجهة نظر أخرى، فإن وسائل الإعلام تعتبر أن مسؤوليتها هي كشف الحقائق وعرضها أمام الرأي العام ومحاربة الفساد، وأن هناك تدخلاً واضحاً من السلطة السياسية في السلطة القضائية، وهذا التدخل يفرض ضغطاً إعلامياً كبيراً أمام الرأي العام.

والمؤكد أن الطرفين يتحملان مسؤولية فقدان الثقة، لأن بعض وسائل الإعلامية يهدف إلى تحريك بعض القضايا لأهداف سياسية معينة، ويقوم بحملات ممنهجة يتعرض فيها لسمعة القضاة أو أي شخصية أخرى، كما أن هناك قضاة يخضعون لمطالب السلطة السياسية بشكل واضح، ويتخذون قراراتهم وفقاً لأهواء السلطة. 

في المقابل، هناك وسائل اعلامية تعمل على نقل الحدث كما هو وتبيان الحقائق أمام الجمهور، وهناك قضاة أيضاً يتمتعون بالنزاهة والاستقلالية ولا يخضعون لأي تدخل. 

ومما لا شك فيه أن موجب التحفظ لا يخدم القاضي في كثير من الأحيان، لأنه يتوجب عليه أحياناً أن يكون على مقربة من الرأي العام، وأن يوضح أي معلومة مغلوطة، وإبعاد الجسم القضائي عن احتياجات المجتمع هو أمر تجب معالجته.

وعلى الرغم من أهمية هذه الندوة إلا أنها خطوة أولى في مسار طويل بحاجة إلى مشاركة مستمرة من الطرفين، لإعادة الثقة، ومن المفيد الاستماع إلى وجهات نظر الطرفين لمعالجة هذه الأسباب والانطلاق منها، خصوصاً أنها المرة الاولى التي يفصح فيها عدد من القضاة عن معاناتهم مع وسائل الإعلام، وهي المرة الاولى أيضاً التي يستمع فيها القضاة لآراء إعلاميين وصحافيين بشأن متابعة القضايا.
 
القاضي تحت الضغط الإعلاميّ 
اعتبرت القاضية ميراي نجم، وهي عضو في المجلس الدستوري، أن مبدأ التجرد هو إبقاء القاضي بعيداً من الضغوط كي يكون مستقلاً، وهذه الضغوط تأتي من وسائل متعددة، وهناك من يستخدم الإعلام كسلطة ضاغطة، لهذا تزداد العلاقة صعوبة بين الطرفين. علماً أن القضاء الدستوري والاعلام متكاملان لأن الحرية مكفولة في الدستور، ويمتد اختصاص المجلس لحماية الإعلام، وانفتاح المجلس الدستوري ساهم في إيصال المعلومة للإعلام، وشرح القرارات وكانت التجربة إيجابية. عملت وسائل الإعلام بشكل موضوعي، والموقع الالكتروني للمجلس ساهم في نقل المعلومات.

تضيف نجم أنه، من جهة أخرى، لا شك أن للاعلام قدرة هائلة على التأثير، وفي بعض الأحيان لا يكون رأيه بناءً، فغالباً ما نرى أحكاماً تظهر في وسائل الاعلام قبل أن تصدر الأحكام النهائية، مما يؤثر سلباً في القاضي، خصوصاً أن مصادر التسريبات لا تكون معروفة ومن الممكن أن تكون منقوصة. 

نادي القضاة
لنادي القضاة تجربة طويلة مع وسائل الإعلام. وبحسب رئيسة النادي، نجاة أبو شقرا، ثمة إشكاليتان في هذا الأمر، الأولى متعلقة بأهمية الإعلام وتأثيره، كونه قادرً على التأثير وتحريك وتوجيه الرأي العام في أي قضية. أما الثانية فتتصل باستقلالية القضاء، في إشارة الى حاجة القاضي إلى الحفاظ على استقلاليته. 

من وجهة نظرها، فإن العلاقة ثنائية، لكن وسائل الاإعلام أقوى، كون القاضي غير قادر على الدفاع عن نفسه حين يتم تجييش الرأي العام ضده، تقول أبو شقرا، كما أن الضغط الإعلامي قد يكون سلبياً وممنهجاً، لإجبار القاضي على اتخاذ موقف معين ومن الممكن أن يتنحى عن الملف أو يسرع في دراسة ملفه، وهذا الضغط قد يكون إيجابياً حين يكون الهدف إنارة الرأي العام، ونقل الحقائق بصورة موضوعية. 

كيف تواجه الضغوط؟ 
يحتاج القضاة إلى مؤسسة لحمايتهم من الحملات الإعلامية التي قد تُشنّ عليهم. وبحسب أبو شقرا، طلب "نادي القضاة" من "مجلس القضاء الأعلى" أن يشكل "مكتباً إعلامياً"، كون التواصل مع الإعلام مسألة حساسة جداً، على أن تكون مهمته التوضيح للرأي العام. وتعتبر ابو شقرا أنه لا يجوز للسلطة القضائية أن تطلب من القاضي تحمّل المسؤولية وحده. إضافة إلى أن الجمعيات المهنية التي ينتسب إليها القاضي يجب أن تشكل خط دفاع من خلال التضامن معه، وهذا ما قام به نادي القضاة الذي دافع عن قضاة منتسبين وغير منتسبين.

وترى أن القاضي هو ملجأ نفسه، لأن له الحق في مواجهة كل ما يتعرض له، وبالتالي فإن الحملات تدفع القاضي الى التواصل مع الغعلام من باب التوضيح. ومن الضروري أن يتم تحديد ناطق إعلامي لكل محكمة أو لدى مجلس القضاء الأعلى للدفاع عن القاضي. 

تأثير وسائل الإعلام
انطلاقاً من التجربة الفرنسية، يوضح هيرفي لوكييه، الأستاذ الجامعي في القانون الخاص Universite Paris Pantheon Assas، أن القضايا التي فتحت أمام الرأي العام لم تكن جديدة، لكن الضغط الإعلامي بهذا الشكل بات جديد وأقوى من السابق، ولم يعد القاضي محمياً من أي حملة، وهو يتعرض لضغط الرأي العام ولضغط إعلامي من جهة أخرى. لكن ما لا يجب أن ننساه أن إضعاف العمل القضائي له تداعيات سلبية، كما أنه لا يمكن للمحاكمات أن تخرج للعلن، لأن المعلومات المسربة تكون منقوصة. من جهة أخرى، يشر لوكييه إلى أن هذا الضغط الإعلامي يُعتبر طبيعياً في فرنسا، كون حرية التعبير مقدسة وأساسية في أي بلد ديموقراطي. لذلك يتوجب وضع حدود لهذه العلاقة. 

ومن وجهة نظر أخرى، يرى المحامي بينوا جومونيه، مدير المدرسة العليا للمحامين الاستشاريين في فرنسا، أن هناك الكثير من القضايا تصدرت الواجهة بسبب نقاشها في الإعلام، وكان الضغط ايجابياً، لأن وسائل الإعلام عملت على نقل معاناة الشعب والإضاءة على احتياجاته وأوصلتها للقضاء. ولمعرفة إن كان الضغط إيجابياً أم سلبياً، يقول جومونيه، يجب أن ندقق في الوقت الذي تبرز فيه هذه الضغوط والوسائل المستعملة، وهناك أيضاً مرحلة ما بعد صدور الحكم، أي أن الاعلام قادر أيضاً على التأثير في ردّ الفعل، لأن هذه المرحلة تؤثر في الاجتهاد اللاحق بعد صدور أي حكم. 

ولعل أفضل الحلول التي يجب اعتمادها في لبنان، بحسب جومونيه، هو تعليل القرار وتبريره من قبل المحاكم. ففي فرنسا، هذه الطريقة تعتبر ناجحة، إذ يتم تعليل القرار في الصفحة الأخيرة، وذلك لإسباغ طابع شرعي إضافي، ومن المفيد أيضاً أن تُتخذ  قرارات قضائية عبر مجموعة من القضاة، أي ألا يصدر القرار عن قاض واحد فقط. 

هل يحق للقاضي التواصل مع الرأي العام؟
القضاء اللبنانيّ تقليديّ، علماً أن هناك الكثير من المتغيرات التي تستوجب التغيير للحفاظ على الجسم القضائي والتماشي مع كل ما هو جديد، وهذا ما ولّد خلافات كبرى بين القضاة ووزارة العدل قبل أعوام. 

ووفقاً لرئيس دائرة تنفيذ بيروت، القاضي فيصل مكي، فإنه حلّ ضيفاً على إحدى القنوات التلفزيونية في العام 2022 للدفاع عن القضاء اللبناني، وحينها قام عدد من القضاة بالتصويت على ضرورة حضوره هذه الحلقة، ووافق من دون أن يستحصل على إذن مسبق من وزير العدل، وتم تحويله على التفتيش القضائي، كما حُوّل لاحقاً أعضاء نادي القضاة بسبب بياناتهم المنشورة في وسائل الاعلام. واعترض القضاء آنذاك على الظهور الإعلامي للقاضي معتبراً أنه خرق لموجب التحفظ. 

وفي رأي مكي، فإن القاضي هو مواطن أيضاً، ويحق له التعبير والدفاع عن نفسه، وفي الوقت عينه يلتزم بالضوابط. وبعد معركة طويلة، ألغيت التعاميم التي تجبر القضاة على الحصول على إذن مسبق، وانتصر القضاء للقضاة انطلاقاً من اجتهاد قانونيّ يؤكد أن القاضي ليس بحاجة إلى أي إذن.     

الالتزام بموجب التحفظ
هناك الكثير من وجهات النظر في ما يتعلق بالتواصل مع وسائل الاعلام. اعتبر بعض القضاة أنه من الضروري أن يلتزم القاضي بموجب التحفظ، فيبتعد من وسائل الاعلام، ليتمكن من اتخاذ قراره القضائي من دون أي ضغط وأن يمنع تسريب أي معلومات للرأي العام. وهذا يستوجب تأمين حماية كاملة له من القضاء اللبناني حين يتعرض لأي حملة. وبحسب القضاة، فهم بحاجة إلى القضاء لحمايتهم والدفاع عنهم. وتقول القاضية رنده حروق، إن الإشكالية الكبرى هي أن وسائل الاعلام تهاجم القضاء والأخير يبقى صامتاً، وهذا يستدعي تشكيل المكتب الإعلامي للدفاع عن القاضي وتوضيح الأمور والتضامن مع القاضي. 
واعتبر آخرون أن القاضي يجب أن يتواصل مع الرأي العام، منعاً للالتباس، ولأن القاضي يتابع قضايا المجتمع والناس، والإعلام هو الجهة الأساسية التي تنقل احتياجات المواطنين.