المصدر: المدن
الكاتب: إبراهيم الرز
الأربعاء 16 تموز 2025 00:50:35
في تطوّر لافت يعيد فتح ملف النزاع البحري العالق بين لبنان وقبرص، يستعد وفد تقني قبرصي لزيارة بيروت هذا الأسبوع، بدعوة من الدولة اللبنانية، بهدف استكمال المشاورات حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وذلك بعد نحو 17 عامًا على توقيع اتفاق أولي لم يُفعّل.
وتأتي الزيارة في أعقاب زيارة رسمية قام بها رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى نيقوسيا مطلع الشهر الجاري، التقى خلالها نظيره القبرصي نيكوس خريستودوليدس، وأعلن عن تحقيق "تقدّم كبير" في الجانب التقني من الملف، مؤكّدًا أن الوفدين بصدد تحويل النتائج التقنية إلى صيغة سياسية قابلة للتنفيذ، على غرار اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل الذي أُبرم في تشرين الأول 2022 بوساطة أميركية.
من اتفاق مجمّد إلى فرصة تفاوضية
يعود أصل النزاع إلى اتفاق لم يوقع وبقي معلقاً في كانون الثاني 2007 بين لبنان وقبرص لترسيم الحدود البحرية باستخدام مبدأ "خط الوسط"، مع بند يتيح تعديله لاحقًا عند الترسيم مع أطراف ثالثة. ورغم تصديق البرلمان القبرصي عليه، امتنعت بيروت عن المصادقة، بعدما تبيّن أن الاتفاق ينطلق من "النقطة 1" جنوبًا، لا "النقطة 23" التي يعتبرها لبنان بداية حدوده مع فلسطين المحتلة.
وفي هذا السياق يقول المختص والمتابع لملف ترسيم الحدود المؤرخ الدكتور عصام خليفة لـ"المدن"، ثمة نقطة جوهرية يجب أن تُؤخذ بالحسبان، وهي أن القانون الدولي، لاسيّما "قانون البحار"، لا يحدد المناطق الاقتصادية الخالصة فقط على أساس خط الوسط، بل يأخذ بعين الاعتبار الطول النسبي للسواحل. لبنان يمتلك ساحلاً طوله حوالي 190 كيلومتراً، في حين أن قبرص لا يتجاوز طول ساحلها الشمالي نحو 103 كيلومترات. وبالتالي، من غير المنصف اعتماد مبدأ التقاسم المتساوي، بل يفترض أن تنال الدولة ذات الساحل الأطول حصة أكبر، وهو ما لم يحصل في الصيغة المقترحة آنذاك. وما كان مقترحاً وقتها يُفْقِد لبنان نحو 2260 كم مربع من منطقته الاقتصادية الخالصة".
وفي عام 2010، بادر لبنان إلى إيداع إحداثيات حدوده البحرية المعدلة لدى الأمم المتحدة، مطالبًا بتعديل الترسيم انطلاقًا من النقطة 23، إلا أن قبرص كانت قد بدأت بالتفاوض مع إسرائيل على أساس الخط القديم، ووقّعت معها اتفاقًا لترسيم حدودهما البحرية في كانون الأول 2010. هذا الاتفاق أعاد إشعال النزاع، إذ اعتبر لبنان أن 860 كلم² من مياهه الاقتصادية جرى اقتطاعها بفعل تداخل الاتفاقيتين.
وقد تكرّست الرؤية اللبنانية بإصدار المرسوم 6433 عام 2011 الذي حدّد الحدود البحرية اللبنانية جنوبًا وشمالًا. ورغم تجميد المفاوضات مع قبرص، تمكّن لبنان لاحقًا من انتزاع اعتراف أميركي ودولي بحقه في الخط 23 بعد مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل قادها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، وانتهت بتوقيع اتفاق رسمي عام 2022 منح لبنان كامل حقل قانا. وفي هذا السياق يؤكد الدكتور خليفة " أن الخط الذي ينصف لبنان هو الخط 29، الذي يشكل حدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية وليس الخط 23 ولكن الخيانة العظمى حصلت من وقع هذا الاتفاق، ونحن اقمنا دعوة قضائية ضدهم".
أهمية الخطوة القبرصية الجديدة
تأتي زيارة الوفد القبرصي في مناخ إقليمي جديد، يواكب نهاية النزاع الحدودي البحري مع إسرائيل، وتعثّر المفاوضات شمالًا مع سوريا. وبهذا المعنى، يشكّل التفاهم مع قبرص فرصة نادرة أمام لبنان لتثبيت حدوده في البقعة البحرية الوحيدة التي لا يزال بالإمكان حسمها دون ضغوط إقليمية كبرى، نظرًا إلى العلاقات الجيدة بين بيروت ونيقوسيا.
وكان رئيس الجمهورية جوزاف عون قد اقترح، خلال زيارته الأخيرة إلى قبرص، تشكيل وفد لبناني رسمي برئاسة وزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني، يضمّ ممثلين عن الرئاسة وخبراء في الطاقة والأمن البحري، بهدف التفاوض على أساس الإحداثيات اللبنانية المودعة لدى الأمم المتحدة، لا تلك التي انطلق منها اتفاق 2007. وتشير معلومات إلى أن الاتفاق المنتظر، في حال أُقرّ، قد يُعيد إلى لبنان أكثر من 2500 كلم² من المنطقة الاقتصادية الخالصة التي جرى التنازل عنها ضمن الاتفاق السابق.
المصالح المشتركة والمخاطر الإقليمية
خلف الجانب التقني من الملف، تكمن رهانات اقتصادية وسياسية كبيرة. فشرق المتوسط يشهد منذ أكثر من عقد سباقًا محمومًا على استكشاف الغاز، بعد اكتشافات ضخمة في الحقول الإسرائيلية (تمار، ليفياثان) والقبرصية (أفروديت)، وتحول المنطقة إلى مصدر محتمل للطاقة بالنسبة إلى أوروبا الساعية إلى فكّ ارتباطها بالغاز الروسي.
وقدّر تقرير أميركي صدر عام 2010 أن المنطقة تحتوي على أكثر من 122 تريليون قدم³ من الغاز، أي نحو 3.5 تريليون متر مكعب، مما يجعل من حصة لبنان، وفق بعض التقديرات، نحو 24% من هذه الموارد في المناطق غير المستكشفة جنوبًا وشمالًا.
وفي هذا السياق، ترى قبرص في الترسيم مع لبنان خطوة ضرورية لإنهاء نزاعها مع تركيا التي ترفض أي اتفاق بحري لا يشمل "جمهورية شمال قبرص التركية". كما تشجّع بعض الأطراف الأوروبية (فرنسا واليونان تحديدًا) على هذا التفاهم كجزء من استراتيجية أوسع لضمان أمن الطاقة في البحر المتوسط.
لكن المخاطر لا تزال قائمة، لا سيما في ظل تعذّر التفاوض مع النظام السوري بشأن الحدود الشمالية، ما يُبْقي كتل التنقيب 1 و2 اللبنانية غير مستثمرة. كذلك، قد يُستخدم الملف كأداة ضغط سياسي في حال تصاعد التوترات بين تركيا والدول الأوروبية بشأن شرق المتوسط. كما يبقى مصير الاتفاق الجديد مرهونًا بقدرة لبنان على التماسك الداخلي، والتفريق بين متطلبات السيادة والاستثمار من جهة، وبين الحسابات السياسية الضيقة من جهة أخرى.
وعن هذا الموضوع يقول الدكتور خليفة: "تركيا، على سبيل المثال، تربط أي اتفاق مع قبرص اليونانية بموقفها من قبرص التركية، وتعتبر أن حدود المنطقة البحرية لا يمكن حسمها من دون أخذ ذلك بالاعتبار. وبالفعل، تعتبر أن أي اتفاق يُبرم مع قبرص اليونانية من دون موافقتها هو اتفاق ناقص، وربما غير شرعي في نظرها". أما في ما يتعلق بسوريا، يضيف خليفة "المسألة لا تقل تعقيدًا. قعلينا أن ننتظر كيف سترسي الأوضاع في سوريا فالحدود كلها مثل لعبة الدومينو، المفاوضات مع سوريا لم تبدأ بعد، وخصوصاً النقطة الثلاثية بين لبنان وسوريا وقبرص، لا سيّما أن المنطقة الحدودية البحرية بين البلدين يُعتقد أنها غنية بالنفط والغاز، بحسب ما يؤكده العديد من الخبراء. وللأسف، الجانب السوري يزاحم لبنان على تلك النقاط البحرية، ما يجعل من الضروري أن يكون لبنان في موقع المطالبة والتثبيت لحقوقه، لا في موقع التنازل أو المسايرة".
بين التفاؤل والفرصة الضائعة
يشير مراقبون إلى أن الدينامية الحالية بين بيروت ونيقوسيا تُظهر رغبة مشتركة في تجاوز حقبة الجمود، وتحويل الخلاف الحدودي إلى شراكة اقتصادية. وقد وصفت مصادر سياسية لبنانية التحرك القبرصي بأنه "فرصة استراتيجية" للبنان لتأكيد حقوقه الاقتصادية في البحر، على أن تُترجم النتائج التقنية في أقرب وقت ضمن معاهدة رسمية.
ورغم أن الطريق لا تزال طويلة نحو تحقيق عوائد فعلية من الغاز، خصوصًا أن عمليات الاستكشاف لم تسفر بعد عن اكتشافات تجارية، إلا أن حسم الحدود يشكل شرطًا أساسيًا لأي استثمار طويل الأمد، كما أنه قد يعزز ثقة الشركات الدولية العاملة في قطاع الطاقة اللبناني.
في النهاية، يبدو أن ملف الترسيم مع قبرص دخل منعطفًا جديدًا، تُبنى عليه آمال بتحقيق انفراج اقتصادي طال انتظاره. لكن كما هو حال معظم الملفات اللبنانية، فإن الاختبار الحقيقي يكمن في الإرادة السياسية وقدرة الدولة على تحويل الفرص إلى مكتسبات، بدل الاكتفاء بتسجيل النقاط في السجلات الدبلوماسية.