وهم الرهان على نبيه بري

الضمانة. حارس الوحدة الوطنية. صمّّام الأمان. راعي التفاهمات الوطنية. جسر التواصل الطائفي. المؤتمن على إرث موسى الصدر. صوت الاعتدال الشيعي. كلّها ألقاب أطلقت على رئيس مجلس النواب، ليس من مناصري حركة أمل (لولا الهاء لكنت نبيًّا)، بل من قدامى الطبقة السياسية اللبنانيّة ("أكلة الجبنة" كما وصفهم يومًا ما الرئيس الراحل فؤاد شهاب)، المسؤولين المباشرين والفعليين عن إيصال لبنان إلى قعر الهاوية. بذلك استطاع هؤلاء (ومعهم الكثير من الموفدين الدوليين السذج) تثبيت موقعية برّي في المعادلة السياسية اللبنانية بشكل معاكس تمامًا لحقيقة الشخص وطبيعته السياسية. عبقري؟ أكيد. مهضوم؟ ربّما. لكن، هاتان الصفتان لا تعنياننا. بل ما يعنينا هو الصفات التأسيسيّة: ميليشياوي الجمهورية، ديكتاتور المجلس النيابي، مهندس تحالف المافيا والميليشيا، عرّاب الطبقة السياسية السفلى، عنوان الوصاية الراحلة، الوجه الآخر لعملة "حزب اللّه"، الراعي الأول لفساد المنظومة، وحارس موبقات الدولة العميقة كافة بكل تنوّعاتها. والأهم من كلّ ذلك المنقلب الأول على إرث الإمام موسى الصدر. من دون أدنى شك، لا يوجد في تاريخ لبنان القديم منه والحديث رهان سياسي فاشل ومضرّ (إن افترضنا صفاء النيات) كالرهان على "وطنية" نبيه برّي، التي لا يوجد أيّ دليل حسّي عليها في العقود الثلاثة الماضية. لذلك، إن كان اللبنانيون يرغبون فعلًا في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، من وضعهم الحالي إلى وضع آخر، فلا بدّ من الاعتراف النهائي بفشل الرهان، وطيّ صفحة "خدعة" نبيه برّي، والتصرّف معه على حقيقته، لا على أساس ما نتمناه منه.

لنبدأ من الفصل الأخير من الرهان على نبيه برّي (إن بدأنا من العام 2005 لاحتجنا إلى مجلّدات). بعد هزيمة "حزب اللّه" في الحرب الأخيرة مع إسرائيل، ساد اعتقاد لدى الكثيرين بأن بري سيقود مرحلة عودة اللبنانيين الشيعة - كمشروع سياسي - إلى الدولة اللبنانية (ليس بمعنى وظائف الدولة التي لم يترك منها برّي شيئًا سليمًا) بصفتها النقيض الفعلي الوحيد للميليشياوية الإيرانية المؤدلجة العابرة للحدود، كما لكونها الضمانة الحقيقية الفعلية والوحيدة لمستقبلهم الفردي والجماعي. كما سادت نظرية مرادفة تقول إن علينا إشعار "الطائفة المجروحة" بأنها محتضنة وطنيًا، ولا مجال لإثبات ذلك إلّا من خلال احتضان بري نفسه، بصفته "الصوت الآخر المعتدل" داخل الطائفة. لذا بدأت سلسلة من التنازلات السياسية (منها غير الدستورية) التي لا تعرف حدودًا ولا تراعي منطقًا: وزير مالية لحركة "أمل". موافقة حركة "أمل" على الوزير الشيعي الخامس، أي احتكارها الفعلي التمثيل الشيعي. كلّ التعيينات الأمنية الأساسية لحركة "أمل". كلّ التعيينات القضائية الأساسيّة لحركة "أمل". إضافة إلى حق فيتو على القرارات الحكومية. هذا السلوك – المنافي لأبسط قواعد بناء دولة حديثة كما لدستور الطائف - لم ينطبق على أي حزب آخر ولا على أي مجموعة سياسية أخرى. بل أعطي "امتيازًا" لنبيه برّي، على قاعدة الرهان على وطنيّته (للمرّة الألف)، ممزوجة بطبيعة الحال بشعور الخوف من ردّة فعله العنفية الميليشياوية إذا لم تلبَّ مطالبه كافة. الافتراض هو أن نبيه برّي يريد فقط "حصّته" في النظام (عالسكين يا بطيخ كما يقول)، أمّا إذا توفر ذلك، فخذوا منه وطنيًا ما يدهش العالم، ويفصل لبنان عن المشروع الإيراني، ويثبّت وضعية الدولة اللبنانية في مواجهة ميليشيا "حزب اللّه".

ماذا كان مردود هذه السياسة وطنيًا؟ لا شيء. لا أثر. صفر مكعّب. بل على العكس تمامًا. في كلمته "المفصلية" في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، الذي اختطف لمواجهته مشاريع الإقليم الأيديولوجي في الجنوب اللبناني، تكلّم برّي بلسان راديكاليي "حزب اللّه"، واصفًا سلاح الميليشيات بعنوان "الشرف"، ومخوّنًا كلّ من يعارض السلاح على اعتباره إسرائيليًَا. لم يتكلّم برّي منذ انتهاء الحرب - ولو لمرّة واحدة - بمنطق رجل الدولة الساعي إلى إحداث نقلة ذهنيّة ووجدانية نوعية لدى جمهور "الثنائي". طبعًا لا يتوقع منه حتى لدى المراهنين أن يكون دي كليرك الشيعة (زعيم حزب المحافظين البيض الذي قادهم نحو التخلّي الطوعي عن السلطة بعد سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا)، ولكن برّي استطاع أن يخيّب أمل حتى أكثر المتحمّسين لدوره المرجوّ والمنتظر. إذ تحوّل بالفعل إلى عنوان لدى جمهور "الحزب" نفسه (الباحث عن زعيم غير نعيم)، ليس كراعٍ للتسوية المرتقبة، بل لمواجهة وتحدّي منطق الدولة و "الصلبتة" عليها (جبران صدق بهذه الكلمة، و 6 شباط ليس ببعيد). هناك بطبيعة الحال من يمنن اللبنانيين بأن بري رعى اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ولذلك علينا أن نكون له من الشاكرين، و "حزب اللّه" نفسه لم يكن ليوافق على النص نفسه (بل ربّما على نص أكثر صرامة) لو لم يكن برّي يخادع الموفدين الدوليين ويستميلهم بـ "سحره" المعهود.

في مسائل وطنية أخرى (غير السلاح الميليشياوي) الوضع ليس أفضل حالًا. تصويت المغتربين اللبنانيين في الانتخابات النيابية أبرز مثال على ذلك. يمنع نبيه برّي منذ ما يزيد عن 6 أشهر النوّاب المنتخبين من التصويت على مشروع قانون يسمح للمغتربين (وعددهم مليونا ناخب، أي 50 % من نسبة الناخبين الإجمالية) بالمشاركة في الانتخابات المقبلة. وبذلك لا يخالف برّي القانون فقط، بل يعمد وبشكل منهجيّ إلى تزوير مسبق لنتائج الانتخابات. لا يعنيه أن أغلبية نوّاب المجلس وقعت على مشروع القانون، ولا أن حق المغتربين بالمشاركة أصبح حقًا مكتسبًا لا يمكن التراجع عنه. ببساطة، يرى أن المغتربين اللبنانيين بأغلبيتهم الساحقة من خارج طائفته كما أنهم معادون لخياراته السياسية (كما إعادة انتخابه رئيسًا للمجلس)، فيعطي نفسه حق منع نصف اللبنانيين من الإدلاء بأصواتهم. المضحك المبكي في هذا المجال أنه يفعل ذلك تحت شعار عدم إمكانية الأحزاب الشيعية من المشاركة في الخارج (أنصاره هتفوا منذ سنتين "برلين صارت شياح")، فيما هو يمنع أي معارض فعلي في الجنوب اللبناني من ممارسة أي عمل سياسي على الإطلاق (طرد مسلّحو أمل المرجع الشيعي المعارض السيد علي الأمين من الجنوب في العام 2008 ولم يستطع العودة إلى قريته حتى اليوم). ومن بعدها، يحدّثنا بري عن عزل الطائفة الشيعية!

نبيه برّي ليس بديلًا عن "حزب اللّه". بل إنه غطاء لـ "حزب اللّه" منطقًا وسلوكًا وممارسة. واحتضانه لا يؤدّي إلى عودة الشيعة اللبنانيين إلى منطق الدولة، بل على العكس تمامًا. رعايته تؤدي إلى استبعاد وقمع وإضعاف المعارضين الشيعة المؤمنين فعلًا بمنطق الدولة. احتضان الشيعة إذًا هو بعزل "صلبتة" نبيه برّي. أمّا المشكلة الحقيقية، فليست بنبيه برّي. بل بالمراهنين عليه، والمؤمنين بدوره، والمسحورين بشخصه، والخاضعين لمشيئته، الموهومين منهم كما الذميّين. "قلّو يا فرعون مين فرعنك؟ قلّو ما لقيت حدا يردّني، لبين ما عطّلولي نصاب!"