بين العطش والتلوث... بحيرة القرعون تُصارع الموت!

تتصدّر بحيرة القرعون مشهد القلق المائي في لبنان، مع تحوّلها إلى رمز حيّ لأزمة المياه المتفاقمة هذا الصيف. فالبحيرة التي أنشئت عام 1959 لتكون مصدرًا محوريًا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وريّ الأراضي الزراعية، وتوفير مياه الشرب، تواجه اليوم انهيارًا تدريجيًا في وظائفها الأساسية. ووسط انعدام الإجراءات الجدية لمعالجة أسباب هذا التدهور، وتراكم العوامل الطبيعية والبشرية التي أدّت إلى واقعها المأزوم، تبدو المؤشرات الميدانية متجهة نحو سيناريو كارثي في الأيام المقبلة.

تغيير معالم البحيرة

في مثل ظروف الجفاف التي يعاني منها لبنان، تعود الذاكرة إلى سنواتٍ شهدت تراجعًا متكرّرًا في مخزون بحيرة القرعون. ويمكن القول إن مستويات المياه المتدنية في البحيرة لم تبلغ بعد ما بلغته في نهاية العام 2020، حين أدّى تراجع الهطولات المطرية وتأخر أمطار الشتاء إلى ظهور جسر "دير عين الجوزةمن تحت مياه البحيرة. وهو جسر تاريخي غمرته المياه منذ إنشاء البحيرة، بعدما سبق بناؤه نشأتها بأكثر من مئة عام، وكان الهدف من إنشائه تسهيل عبور المزارعين إلى أراضيهم بين ضفّتي قرى البقاع الغربي المحيطة بها، من جهة القرعون أو من جهة صغبين.

لم تظهر ملامح هذا الجسر حتى الآن، والتعويل على أن تعوض أمطار الشتاء النقص الحاصل فيها، قبل أن تبلغ مستوياتها التي بلغتها في العام 2020. إلا أن تراجع مساحة البحيرة في المقابل، كشف مجددًا عن مبنى يتألف من خمس طوابق يستقر على ضفة قرى القرعون تحت مخزون البحيرة، وقد بات ظهوره المتكرر فوق سطح المياه علامة ملموسة على خطورة الوضع المائي والبيئي الذي يواجهه الحوض. علمًا أن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني كانت قد قدمت المبنى سابقا لجمعية حماية الطبيعة والموارد الطبيعية في لبنان (SPNL)، ليُستخدم كمرصد لمراقبة الطيور المهاجرة، ضمن جهود إنشاء مناطق محمية وتطوير السياحة البيئية في محيط البحيرة. 

بركة من البكتيريا السامّة

مع أن الأضرار المباشرة لشح المياه لا تظهر حتى الآن إلا في مؤشرات تناقص مخزون البحيرة، فإن تداعيات هذا التناقص تبدو أشد حدة من سنوات الشح السابقة، نتيجةً لتراكم الملوّثات التي اجتاحت البحيرة وحوّلتها إلى بركة من البكتيريا السامّة، والتي يحذّر الدكتور كمال سليم، الباحث العلمي والخبير في دراسة الحياة المائية، من تأثيراتها على البيئة المحيطة.

وفقًا لآخر الأرقام المحدثة التي حصلت عليها "المدن" من رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية، فإن الواقع الإنتاجي للبحيرة حاليًا هو على الشكل الآتي:

بلغ مخزون بحيرة القرعون حتى تاريخ 13 آب 2025 حوالى 55 مليون متر مكعب، وهو مستوى مقلق مقارنة بالسعة القصوى للبحيرة التي تصل الى 220 مليون متر مكعب. علمًا أن مياه البحيرة عرضة لتبخر يومي يقدر بكمية 120 ألف متر مكعب. وهذا يشكل الإستهلاك الوحيد لهذه المياه، بعدما توقف تشغيل معامل عبد العال وأرقش وشارل حلو بقوة دفع مياه البحيرة نهائيًا، وتحول دور البحيرة من تشغيل استثماري لهذه المعامل الى تشغيل تقني لدعم شبكة كهرباء لبنان عند الضرورة او خلال حالات الانقطاع الكلي أو الـ Blackout.

ويشار الى أن كمية المياه التي لا تزال متوافرة في البحيرة اقتربت من المخزون الاستراتيجي للبحيرة والذي يُقدَّر بـ 50 مليون متر مكعب. بينما الحد الأدنى الآمن للمخزون قبل بلوغ مستوى الترسبات الخطرة هو 30 مليون متر مكعب. وهذا ما يتطلب خطة استجابة طارئة تتضمن تحديد الأولويات بما يتناسب مع مستويات المخزون. على أن تكون الأولوية لتوفير مياه الشفة وتلبية الحاجات الحيوية للمواطنين. ويعمل في المقابل على تقنين مياه الري، مع إعطاء الأولوية للري التكميلي للمحاصيل الإستراتيجية وتقييد زراعة المحاصيل ذات الاستهلاك المائي المرتفع.

مستنقع لبكتيريا خطرة

مما لا شك فيه أن واقع البحيرة حاليًا يشكل مصدر قلق كبير لأهالي القرى المجاورة لها. ومع أن الشكوى الأولى لأهالي المنطقة التي تحضنه هي من التقنين الكهربائي، بعدما كانوا يتمتعون بتغذية متواصلة من معمل عبد العال، فإن التناقص الحاد في مياه البحيرة، يثير مخاوف أخرى كبيرة لدى أهالي البلدات المحيطة به، من تداعيات التلوث الذي يرونه بلون البحيرة المتحول أخضر غامقًا ورائحتها النتنة التي طردت منها كل حياة، ومعها قطعت أرزاق صيادي السمك، إضافة الى خنقها الحركة السياحية في البحيرة ومحيطها.

يتحدث الدكتور كمال سليم، الذي أجرى اختبارات عديدة ومتكررة على مياه البحيرة قبل عشرين سنة، عن ضرر عضوي لاحق بها، جازمًا بتحول حوضها مستنقعاً للسيانوبكتيريا الخطرة. ويشرح الظروف التي تغذي هذه البكتيريا نتيجة لارتفاع درجات الحرارة وبالتالي نسب تبخر المياه. ويخشى من أن خلايا هذه البكتيريا السامة تتكاثر حالياً في بركة مغلقة، معربًا عن قلقه من إنتقال سمومها إلى الجوار. 

ويوضح سليم أن هذه البكتيريا مستوطنة في البحيرة، وبالتالي فإن تراكم المياه فيها مجددًا نتيجة للهطولات المطرية، لا يلغي تداعيات ترسباتها في القعر، وقد بدأت تظهر بشكل أكبر مع تراجع مخزون المياه في البحيرة. ولذلك يقول "الله يستر" من الأشهر المقبلة. فمشكلتنا مع السيانوبكتيريا كما يؤكد سليم أنها لا تموت، ولكنها تختبئ في القاع، ومن الصعب معالجتها نهائيًا، بمعزل عن معالجة الأسباب التي حولت البحيرة بيئة حاضنة لها. وهذا يتطلب، في رأيه، تتبع مصادر التلوث بدءاً من النبع مروراً بالقرى التي تصب مجاريها الصحية في الليطاني وصولاً الى المصب. والحلول ممكنة ولكنها تحتاج إلى خطة، والبداية بإنشاء محطات التكرير.

خطة طويلة الأمد

إن محاربة التلوث المزمن في بحيرة القرعون تتطلب خطة طويلة الأمد، كان يفترض أن يبدأ تنفيذها منذ زمن بعيد. ويحدد علوية خطوطاً عريضة لمثل هذه الخطة التي تتضمن تعزيز كفاية استخدام المياه، من خلال فرض استخدام أنظمة الري الحديثة، كالري بالتنقيط بدل الغمر، ومنع السحب غير المشروع من المجرى الرئيسي للنهر، والحد من الهدر وخفض تلوث المياه. وهذا يتطلب معالجة التعديات والمخالفات على مجرى النهر وروافده، وإعادة تأهيل القنوات والمحطات لتقليل التسرب والهدر، إضافة الى مراقبة مصادر التلوث الصناعي والزراعي لضمان سلامة المخزون، وإدارة الطلب على الطاقة، بالاعتماد على مصادر الطاقة البديلة (الشمس والرياح) لتخفيف الضغط عن المعامل الكهرومائية.

لكن مشكلة البحيرة، على ما يظهر جليًا، ليست في الخطط، وإنما في الإرادة السياسية لتطبيقها أو لوضعها في قائمة الأولويات وإدراك أهمية البحيرة، بما تشكله من رئة بيئية واقتصادية للمنطقة يهدد انهيارها بخنق المحيط. فهل تتوافر هذه الإرادة السياسية والوطنية الجدية لإنقاذ القرعون قبل فوات الأوان؟