المصدر: الشرق الأوسط
الكاتب: بولا اسطيح
الأحد 11 حزيران 2023 06:25:29
كتبت بولا اسطيح في الشرق الاوسط:
ليس سهلاً أو عابراً أن يتحول الحائز على عشرات الجوائز العالمية التي تصنفه كواحد من أفضل حكام المصارف المركزية على مستوى العالم كما مصدر الثقة الأول للبنانيين وحامي ليرتهم، بسحر ساحر، إلى المسؤول الأول عن الانهيار المالي الذي يشهده البلد منذ عام 2019 وإلى مطلوب من السلطات الفرنسية بعد إصدار القضاء الفرنسي والألماني مؤخراً مذكرات توقيف دولية بحقه على إثر تغيبه عن جلسة استجوابه في باريس بتهم مرتبطة بـ«اختلاس وغسل أموال وتحويلها إلى حسابات في الخارج وبإثراء غير مشروع».
الرجل السبعيني الذي طالما صُوّر «بطلاً خارقاً»، ومهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد اللبناني بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، والذي يشغل منصب حاكم مصرف لبنان منذ 30 عاماً، أي أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم، أصبح ومنذ نحو عامين محور تحقيقات قضائية في لبنان والخارج من دون أن يؤثر ذلك على استمراره في موقعه الذي ينهي ولايته الخامسة فيه نهاية شهر يوليو (تموز) المقبل، في ظل تفاهم سياسي داخلي وخارجي على عدم التجديد له مرة أخرى واتجاه الأمور لتولي نائبه الأول وسيم منصوري مهامه حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
«الحاكم بأمره»!
وليس خافياً أن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري كان اختار سلامة حاكماً لمصرف لبنان عام 1993 ليكون شريكه في عملية النهوض ببلد نهشته الحرب الأهلية. وبعدما نجح في لجم انهيار العملة اللبنانية وتثبيتها عند حدود الـ1500 ليرة للدولار الواحد بقرار سياسي واضح كان يتم التصديق عليه مع كل بيان وزاري، فرض نفسه «الحاكم بأمره» بالسياسة النقدية في البلد، مما أدى لتجديد ولايته التي تمتد 6 سنوات لأربع مرات متتالية في 1999 و2005 و2011 و2017.
خلال هذه الفترة، حاز سلامة على أوسمة وجوائز عالمية عديدة أبرزها: أفضل حاكم لمصرف مركزي عربي وأفضل حاكم في الشرق الأوسط أكثر من مرة، كما يعد واحداً من أفضل 9 حكام مصارف مركزية في العالم. أضف إلى ذلك أنه أول حاكم مصرف مركزي عربي يقرع جرس افتتاح بورصة نيويورك عام 2009.
إلا أن المرحلة الذهبية هذه، التي دامت عشرات السنوات، لامست نهاياتها مع بدء الانهيار الاقتصادي وانطلاق مظاهرات شعبية غير مسبوقة في تشرين الاول 2019 ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبتغليب منطق الصفقات في إدارة البلاد. ومنذ ذلك الحين وسلامة يسعى لاستيعاب الانهيار الصاروخي للعملة اللبنانية من 1500 ليرة للدولار الواحد لحدود 95 ألفاً للدولار، من خلال إجراءات وتعاميم شتى، يقول خبراء إنها تؤخر الارتطام وتجعل وقعه أخف.
وجمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ قبل عام 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه، بينهم شقيقه رجا، بتهم غسل أموال و«اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021». وهو يُحاكم حالياً في لبنان كما في فرنسا ودول أوروبية أخرى.
ماذا أنجز سلامة؟
يشير الباحث في الشؤون الاقتصادية الدكتور محمود جباعي إلى أنه «بعد عودة الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى لبنان بعد الحرب الأهلية وفي ظل الأزمة المالية الكبيرة التي كان يمر بها البلد وانهيار عملته من 3 ليرات إلى 3 آلاف ليرة، استُدعي رياض سلامة نظراً لخبرته العالية بإدارة الملفات النقدية والمالية في العديد من الشركات الدولية. وعندما تسلم الحاكمية بدأ العمل على تحسين سعر الصرف الذي انخفض من 3 آلاف ليرة إلى 1500 ليرة وصولاً لتثبيته من خلال عدة سياسات وأفكار، منها اجتذاب الرساميل إلى البلد والتوظيفات المالية والودائع الخليجية، إضافة لاستقدام الحريري لمساعدات مالية من خلال مؤتمرات «باريس 1 و2 و3»، لافتاً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «كل ما سبق أدى لثقة بالحاكم وأكد الحاجة إليه وهو ما أبقاه في منصبه طوال هذا الوقت، خاصة أنه في كل مرة كان يتعرض فيها البلد لاهتزازات مالية ونقدية كان يستطيع بسياساته وهندساته تهدئة سعر الصرف، بغض النظر عن التكلفة التي دُفعت من «المركزي»، علماً أن تثبيت سعر الصرف كان يصدر بالبيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة.
تثبيت سعر الصرف
من جهتها، تعتبر الباحثة في الشأنين الاقتصادي والمالي والأستاذة الجامعية الدكتورة ليال منصور أن «تفاهمه مع المنظومة السياسية سمح ببقائه كل هذه الأعوام في منصبه»، موضحة أن «الجوائز التي نالها هي نتيجة نجاح سياسات تثبيت سعر الصرف خاصة خلال الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي مرت بها البلاد طوال الأعوام الماضية. وبالتالي ما يمكن تأكيده أن الجوائز لم يحصدها لأنه عمل على تحسين وتطوير الليرة واستيعاب الاستثمارات». مضيفة في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «أصاب سلامة عندما أتى إلى الحاكمية فثبّت العملة لأنه في أي بلد مدولر لا يمكن أن يطبق عليه تحرير العملة. لكن بعد استيعاب المرض كان يُفترض معالجته. بعد عام 2000 شهد البلد مراحل من الاستقرار، وهو أخطأ لأنه لم يضع هدفاً أمامه بتخفيف الدولرة، كما أنه يمكن لومه على النقص بالشفافية وإصراره على القول إن الليرة بخير وبألف خير».
أما الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة فيتحدث عن «هدف نقدي واضح لسلامة ضمن السياسة الاقتصادية التي وضعها الحريري، وهي استقرار سعر الصرف بهدف استقرار الأسعار عامّة. وهو ما نجح في تحقيقه. وما احتواء البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة على عبارة «الاستمرار بسياسية الثبات النقدي» إلا إثبات على هذا الأمر. لذلك من الضروري القول إن الرخاء الاجتماعي الذي عاشه الشعب اللبناني منذ عام 1997 وحتى عام 2019، يعود إلى ثبات العملة، وليس إلى السياسات الاقتصادية للحكومات على الرغم من الظروف السياسية والأمنية التي مرّ بها لبنان. وبالتالي فإن خيار الاستقرار النقدي كان خياراً صائباً».
أخطاء سلامة
وفي مقابل ما قد يُعتبر إنجازات لسلامة، تطول لائحة الأخطاء. ويقول البروفسور مارون خاطر، الكاتب والباحث في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة إن «رياض سلامة ليس حيثية قائمة بذاتها، بل هو جزءٌ من منظومةٍ متكاملة وزّعَت الأدوار فيما بينها وغالت في المُرور عبر بعض مواد قانون النَّقد والتسليف، وفي تبذير أموال الدولة والمودعين على حدٍ سواء»، لافتاً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «إذا كان قانون النقد والتسليف يُلزِم المصرف المركزي بإقراض الدولة بناءً على طلب الحكومة، فهو لا يُلزم حاكماً أن يبقى في كرسيِّه». ويضيف: «جعلت استدامة تمويل الدولة للمصارف عبر (المركزي) من رياض سلامه حاجةً للسياسيين المتعاقبين وهم بأغلبيتهم من الفاسدين. وأمَّنت وفرة التدفقات تمويل الزبائنية السياسية والمحاصصة والفساد وجعلت الإصلاح غائباً بسبب تضارب المصالح».
ويشدد خاطر على أن «لبنان لم يصل إلى ما وصل إليه لأن رياض سلامة كان حاكماً لمصرف لبنان، بل لأنه كان لصيقاً ببيئة سياسية حاضنة للفساد والهدر والمحاصصة والزبائنية والتبعية استبدلت بالموقع الوظيفيّ العام شخصه وورّطته. كما أنه في زمن الأزمة الأخيرة، فاضت مَلكَة الحاكم تعاميم وبيانات ومنصات وتدخلات في محاولة للتخفيف من تداعيات، مما تسبب به مع رفاقه في المنظومة من مآسٍ وويلات، تدابيرٌ فيها من التجاوزات والاستنسابية ما يكفي».
وعن الأخطاء التي ارتكبها سلامة، يقول محمود جباعي: «من يعمل يخطئ. قد تكون هناك بعض الأخطاء التي ارتكبت بالسياسة النقدية. كما أنه قد يكون قد أخطأ بالموافقة على دفع كل هذه الأموال في إطار سياسة الدعم، لكنني لا أعلم إذا كانت القوانين تسمح له بأن يرفض إقراض الدولة، لكنه بكل الأحوال كان يفترض أن يخرج ليوضح للناس أن هذه السياسة خاطئة». ويضيف: «لكن مما لا شك به أيضاً أن سلامة اتخذ الكثير من الإجراءات الصحيحة، وخاصة بعد الانهيار حيث أدار الملف النقدي والاقتصادي بنجاح، وهو ما يجعل قسماً كبيراً من اللبنانيين لا يزال يثق به ويعتبر أنه قادر على لجم سعر الصرف».
أما ليال منصور، فتشدد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» على أنه «لا يوجد بلد مدولر في العالم وغير فاسد، فهذه البلدان تشهد أعلى نسب من الفساد، لأن الدولرة تنعش وتعزز الفساد. لذلك كان يستطيع سلامة وضع خطط لتخفيف الدولرة كما في إسرائيل مثلاً، لكنه لم يقم بذلك طوال 30 عاماً رغم مرور البلد بفترات من الاستقرار!».
وتؤكد ليال منصور أنه «كان من الممكن تفادي الانهيار أولاً من خلال تخفيف الدولرة وتعزيز الثقة بالليرة، كما من خلال عدم إقراض الدولة الفاسدة والفاشلة.. فسلامة لم يكن يعطي قروضاً للمشاريع، إنما للصرف العشوائي بغياب الخطط الإنتاجية والاستثمارية». وتضيف: «صحيح أن (المركزي) مجبر على إقراض الدولة لكن كان باستطاعة سلامة الخروج لمصارحة الناس بأننا مقبلون على انهيار.. كما أنه كان يفترض به الاستجابة لتقارير صندوق النقد الدولي التي نبهت منذ عام 2005 من خطورة الدولرة ومن الانهيار».
ويتفق معظم الخبراء الماليين على أن عدم خروج سلامة لمصارحة الناس بما يجري واستمراره تمويل الدولة كان أبرز «خطاياه». وهنا يقول جاسم عجاقة إن «تمويل الدولة كل هذه الفترة وتصديق الوعود السياسية بالقيام بالإصلاحات هو من الأمور التي لم يكن على الحاكم القبول بها حتى ولو كلّفه الأمر منصبه. فالكل يعلم أن بلداً يعيش عجزين مزمنين (عجز في الموازنة وعجز في الحساب الجاري) مصيره الإفلاس!».
كبش محرقة؟
ويرى جباعي أنه «بعد حصول الانهيار حاول فرقاء سياسيون ولا زالوا يحاولون أن يجدوا كبش محرقة للأزمة المالية-النقدية- السياسية، للقول «عفا الله عما مضى وهذا هو المسؤول الوحيد عن كل ما حصل، وهذا ما نرى فيه ظلماً وتجنياً». ويضيف: «(المركزي) يتحمل لا شك جزءاً من المسؤولية المتعلقة بالسياسة النقدية، بموضوع الودائع والتداخل بين خزينة مصرف لبنان والدولة اللبنانية. لكننا طوال السنوات الماضية شهدنا أزمات سياسية كبيرة فرضت على الحاكم اتخاذ إجراءات للحفاظ على الاستقرار النقدي لكنها لا شك ليست السبب وراء الانهيار باعتبار أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت قرار حكومة حسان دياب عدم دفع سندات اليوروبوند، ومن بعده سياسة الدعم التي أدت لصرف 18 مليار دولار من أصل 33 مليار دولار كانت موجودة في (المركزي) عند اندلاع الأزمة وهنا الطامة الكبرى».
ويتفق خاطر مع جباعي على أن «البعض من باعة المبادئ حاول تحويل رياض سلامة إلى (كبش فداء) فانضمّوا إلى صفوف الحضور بل باتوا في صف الهيئة الاتهامية بدلاً من أن يكونوا معه سوياً في القفص».
بديل سلامة
يختلف الخبراء بين من يعتبر أن حاكماً آخر كان يستطيع تجنيب البلد الانهيار وبين من يؤكد أن الشخص لا يمكن أن يكون سبب الأزمة أو المنقذ. وفي هذا المجال يقول عجاقة: «لا أعتقد أن شخص الحاكم (كائناً من كان) كان ليُغيّر فيما حصل والسبب يعود إلى الحياة السياسية اللبنانية وإلى قانون النقد والتسليف، وخصوصاً المادة 91 التي يتوجّب إلغاؤها أو أقّلّه تعديلها لكي تكون خاضعة لمزيد من القيود ولا يكون تمويل الدولة مبنياً فقط على إصرار الحكومة»، معتبراً أن «الصفات الأساسية التي يفترض أن يتمتع بها من سيخلف سلامة هي أن يكون له معرفة قوية بالسياسات النقدية، قادر على إدارة ملف إعادة هيكلة المصارف، يتمتع بعلاقات دولية واسعة وغير تابع لفريق سياسي».
من جهته، يؤكد خاطر أن «أي حاكم جديد، لن يتمتع بخِبرة وقُدرة رياض سلامة على المُناورة وعلى ابتداع التدابير، هو الذي أمضى سنوات طويلة يتمرَّس في شراء الوقت الذي كان مصيره الهدر. إلا أننا نأمل ألا يطلب من أي حاكم جديد، مما طلب من رياض سلامة. من هنا وجوب أن تكون استقلالية المصرف المركزي عن السياسة هي العنوان لأي عهد جديد في حاكمية مصرف لبنان».
أما ليال منصور، فترى أن «أي حاكم جديد يفترض أن يكون متخصصاً وضليعاً في السياسات النقدية والمصارف المركزية. وأن يكون هناك تفاهم سياسي عليه كي ينجح. فللأسف هذا ما يفرضه واقع البلد».
ولا يعتبر محمود جباعي أن «هناك أفضل من سلامة ليدير الأزمة الراهنة»، معرباً عن خشيته بعد انتهاء ولايته من «فراغ كبير على أكثر من مستوى وأن يكون الوضع أصعب. ففي حال لم يتم انتخاب رئيس يفترض تمديد ولايته لعامين إضافيين، لأن أي بديل حالياً قد لا يتمكن من إدارة المرحلة في ظل المناكفات السياسية المعتادة. إلا إذا حصل انتخاب رئيس وأتى دعم خارجي فعندها يكون الوضع مختلفاً».