المصدر: وكالة الأنباء المركزية
اعتقد اللبنانيون أن القدر اكتفى بأن يجرّعهم سم الموت والكوارث والفشل والانهيارات والفساد في العام 2020 الذي كان بحق من الأسوأ في تاريخهم السياسي الحديث. لكن الأهم فات أصحاب هذا الاعتقاد. فاتهم أننا في لبنان حيث اللعنة الحقيقية ليست صنيعة القدر بقدر ما هي صنيعة سلطة فاسدة فاشلة وعاجزة لا تخجل من خوض المعارك السياسية التي يصح وسمها بالسخف، على جثة وطن كبّله العجز وأناس أدماهم الانهيار الماضي في الاجهاز عليهم بلا هوادة.
في ظل هذه الصورة القاتمة انطلق العام 2021 في لبنان، المثقل بروائح الدم والموت والحزن، على وقع كارثة انفجار مرفأ بيروت. وهنا تماما تظهرت ما لا خجل في اعتبارها وقاحة بعض اهل الطبقة السياسية، الذين لا يتقنون شيئا بقدر فن إدارة الأذن الصماء لوجع الناس وأنينهم، خصوصا عند خوض معارك البحث عن عدالة الأرض للاقتصاص من المجرمين الذين يقفون خلف كارثة 4 آب2020. بدليل أن الوزراء والنواب الدائرين في فلك الثنائي الشيعي وحلفائه، ممن هم في دائرة الشبهات، ابتدعوا مفهوم الارتياب القضائي المشروع بالقاضي فادي صوان، الذي كان يدير دفة التحقيق في جريمة العصر لإبعاده عن الملف. وعلى وقع الكلام عن تهديدات مبطنة تلقاها القاضي صوان، خرج الأخير من حلبة التحقيق، تاركا المهمة شبه المستحيلة للقاضي طارق البيطار، الرجل الذي صار عن حق مرادفا للقوة واستحق بجدارة لقب رجل العام. كيف لا وهو الذي لم تنجح كل محاولات السلطة للضغط على القضاء في ثنيه عن المضي في رحلة البحث عن الحقيقة والعدالة. هكذا تهاوت شكاوى وطلبات الرد والرد على الرد أمام سلطة قضائية صدمت المنظومة من حيث وقوفها إلى جانب البيطار، مع العلم أن القاضي إدعى على الشخصيات نفسها التي كانت في مرمى القاضي صوان، في مؤشر واضح إلى أن التحقيقات تمر حتما بإجاباتهم عن أسئلة عدة أبرزها: من هو صاحب شحنة النيترات ومن اتصل برئيس الحكومة السابق حسان دياب لثنيه عن زيارة المرفأ قبل أيام من الكارثة... على أن الأهم يكمن في أن البيطار وسع بيكار التحقيقات ليطال مسؤولين أمنيين حظوا بالحماية السياسية، وهو ما أزعج حزب الله وكوادره إلى حد إقدام مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا على زيارة قصر العدل والتهديد بـ "قبع البيطار"، بينما نادى الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بتغيير القاضي المتهم بتسييس التحقيق.
لكن هذه المرة، سقط فائض القوة عند أقدام القضاء وصرخات الناس الذين لبوا نداء أهالي ضحايا الانفجار إلى التظاهر في الذكرى السنوية الأولى للكارثة لإطلاق العنان لصرخات المطالبة بالحقيقة. على أن هذا الوضع لم يعجب الثنائي الشيعي بطبيعة الحال، فلم يجد أمامه سوى اللجوء إلى السلاح وإدارته إلى الداخل في محاولة لفرض مراده على الساحة. هكذا أعاد الثنائي إحياء مشاهد 7 أيار 2008 في منطقة الطيونة في 14 تشرين الأول. صحيح أن المعارك الضارية بين عناصر حركة أمل والقوات اللبنانية فاقمت أزمة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي عطّل محركاتها الثنائي قبل يومين على لسان وزير الثقافة المقرب من حركة أمل محمد مرتضى (وهي مشلولة تماما منذ ذلك الحين) إلا أنها قدمت خدمة شعبية كبيرة إلى رئيس القوات سمير جعجع، قبل شهور معدودة من الانتخابات النيابية، وذلك في مواجهة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
وفي السياق، لا يشك أحد في أن باسيل سيكون سعيدا في وداع واحد من أسوأ الأعوام السياسية عليه، وعلى فريق الرئيس ميشال عون بشكل عام، على الرغم من عودة العمل بالتدقيق الجنائي والاستعدادات لجولة جديدة من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. فإلى جانب الوضع الاقتصادي الكارثي الذي طبع عهدا وصف بالقوة باكرا، على وقع بلوغ الليرة سقف الـ ٢٨ ألف ليرة مقابل الدولار، وضع باسيل نفسه في موقع المعرقل لتشكيل الحكومة التي كان من المفترض أن ترى النور على يد الزعيم السني سعد الحريري. إلا أن أولوية التيار والفريق الرئاسي كانت في مكان آخر، في الحصول على الثلث المعطل في التشكيلة الحكومية الأخيرة في إطار الحسابات الرئاسية المبكرة. وإذا كانت هذه الحرب السياسية أتت فيما كانت العلاقة بين التيار وحزب الله تتوتر رويدا رويدا ، فإن الأهم يكمن في نتائجها: استسلم الرئيس سعد الحريري أمام ضغط الفريق الرئاسي، واعتذر عن مهمة التأليف،منسحبا من الحياة السياسية العامة... حتى اللحظة على الأقل. وبعد طول انتظار، وافق الرئيس نجيب ميقاتي على استلام كرة النار، ونجح في تأليف الحكومة في أيلول الفائت، بعد 13 شهرا على استقالة الرئيس حسان دياب.
لكن على طريقة "يا فرحة ما تمت" تعطل القطار الحكومي بعد ثالث جلسات مجلس الوزراء عند محطة البيطار والطيونة، لكن أيضا عند محطة الأزمة المدوية مع دول الخليج العربي، لا سيما منها المملكة العربية السعودية، التي كانت نصب أعين مصدّري المخدرات من لبنان إلى العالم العربي. كان يكفي أن يتسرب فيديو قديم لوزير الاعلام جورج قرداحي، نجم برنامج من سيربح المليون على قناة إم بي سي السعودية يتحدث فيه عن مشاكة المملكة في حرب اليمن "العبثية" لينفجر غضب الرياض ودول الخليج في وجه لبنان الذي "يهيمن عليه حزب الله الارهابي". في لحظة سياسية حرجة سحبت هذه الدول سفراءها من بيروت وطردت الديبلوماسيين اللبنانيين من أراضيها، وقاطعت البضائع اللبنانية، مفاقمة بذلك الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيش اللبنانيون تحت رحمتها... عند هذه النقطة أيضا ضرب الشلل الحكومة، على وقع موقف حزب الله الرافض أي استقالة للوزير قرداحي على اعتبار أنه قال ما قاله قبل تعيينه وزيرا...على أن المعني عاد واستقال تحت الضغط الدولي، عشية القمة التي عقدت في بداية الشهر الجاري بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جدة... ما يعني أن ماكرون باع رأس القرداحي إلى الرياض حتى لا تطير حكومة ميقاتي. إلا أن هذا لا ينفي أن الأخيرة لم تعد بعد إلى الحياة، لأن الاتفاق السياسي العريض الذي يتيح ذلك لم ينضج . بدليل أن الصفقة الأخيرة أسقطت قبل الأعياد بضربة ميقاتية شهدها مكتب الرئيس نبيه بري في عين التينة. وطالت هذه الضربة بشظاياها المجلس الدستوري الذي لم يخرج بقرار حاسم في شأن الطعن الذي قدمه تكتل لبنان القوي بالتعديلات التي أدخلها المجلس النيابي بدفع من رئيسه، الخصم اللدود لبعبدا والبياضة، إلى قانون الانتخاب على رغم المخالفة الواضحة للمادة 57 من الدستور. كل هذا شكّل مسمارا في نعش العلاقة المتوترة أصلا بين الضاحية وثنائي ميرنا الشالوحي – بعبدا. وفي انتظار المسمار الجديد المتوقع أن يدقه باسيل في نعش العلاقة في مؤتمره الصحافي الأول للعام الجديد الأحد، قد يكون من المفيد تذكير أهل المنظومة بأن حروبهم السياسية واستعداداتهم للانتخابات الرئاسية والنيابية تجري فيما اللبنانيون(الذين وصلتهم لقاحات كورونا، في نقطة مضيئة شبه يتيمة هذا العام) عاشوا المهانة والذل ما بعده الذل في طوابير البنزين والغاز والخبز والدواء المقطوع والمرض الممنوع... في دولة ضرب حزب الله هيبتها باستيراد المحروقات الايرانية من دون أن يحرك أي مسؤول ساكنا... إنها الدولة عينها التي رفعت الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات وانبرى أركانها إلى شن الحملات السياسية والرئاسية على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يحمّله معارضو سياساته مسؤولية الأزمة، متغاضين عن الجانب السياسي الكبير فيها... إنها أيضا الدولة عينها التي يتلذذ التجار وأبطال الاحتكار في ابتزاز ناسها، ولا يرى بعض القضاة ضيرا في إلحاق الأذى المعنوي بسلطتها القضائية، كما حصل عندما داهمت القاضية غادة عون مقر إحدى شركات تحويل الأموال...
وليكتمل سواد الـ 2021 كان لا بد لها أن تحمل سجلا حافلا بالوفيات، بحيث ودع لبنان النواب ميشال المر، جان عبيد، فايز غصن، ومصطفى الحسيني (من دون أن تجري السلطة انتخابات فرعية لملء الشواغر)، الناشط والصحافي المناوئ لحزب الله لقمان سليم، في جريمة لا تزال عصبة على الكشف، رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، الناشط السياسي مسعود الأشقر، الموسيقار الياس الرحباني، المخرج السينمائي برهان علوية، الممثلين ميشال تابت، بيار جماجيان وإدوار الهاشم والصحافي سماح إدريس.