إتيكيت وبروتوكول دفن البابا: طقوس ملكية بين التقليد والتجديد

تخضع مراسم دفن البابا لبروتوكول فاتيكاني عريق متوارث عبر القرون، إذ تبدأ بإعلان الوفاة رسمياً، يتبعه قرع أجراس كاتدرائية القديس بطرس وتنكيس علم الفاتيكان. ينقل الجثمان إلى كاتدرائية القديس بطرس، حيث يُعرض للعامة مرتدياً اللباس البابوي الأحمر رمز الاستشهاد، ليتسنّى لهم إلقاء النظرة الأخيرة قبل إقامة الجنازة الرسمية بعد 4 إلى 6 أيام. تُقام المراسم الكبرى في ساحة القديس بطرس برئاسة عميد مجمع الكرادلة، بحضور شخصيات رفيعة من رؤساء دول وملوك وزعماء دينيين، ليُوارى البابا الثرى في سرداب خاص تحت الكاتدرائية داخل ثلاثة توابيت متعاقبة: خشبي، معدني، ثم خشبي خارجي.

الإتيكيت الديبلوماسي في وداع البابا
تخضع المشاركة الديبلوماسية لقواعد دقيقة تحدّد مستويات التمثيل وترتيب الجلوس وأصول المظهر. ترسل أمانة سر دولة الفاتيكان الدعوات الرسمية الى رؤساء الدول والحكومات وقادة روحيين، مع ترك الحرية لكل دولة لتحديد مستوى تمثيلها، وفيما ترسل بعض الدول قادتها، تكتفي دول أخرى بوزير أو سفير.

يلتزم الحاضرون لباساً رسمياً صارماً: يرتدي الرجال بدلات سوداء داكنة مع ربطة عنق سوداء، والنساء يرتدين فساتين سوداء طويلة مع طرحة رأس (Mantilla)، باستثناء الملكات الكاثوليكيات اللواتي يتمتّعن بـ"الامتياز الأبيض" ويرتدين الأبيض في هذه المناسبة.

في مراسم الجلوس، تُراعى الأسبقية الديبلوماسية لا القوة السياسية أو الاقتصادية، بحيث يجلس السفراء حسب ترتيب اعتمادهم لدى الكرسي الرسولي، كما يتم فصل الوفود بحسب القارات مع تخصيص مضيفين فاتيكانيين لمرافقتهم.

لا يُسمح بإلقاء خطابات خلال الجنازة، بل يُكتفى بتوقيع دفاتر التعازي الرسمية.

 

جنازة البابا يوحنا بولس الثاني (2005): مشهد ديبلوماسي تاريخي
شكّلت جنازة يوحنا بولس الثاني سابقة تاريخية من حيث حجم الحضور الديبلوماسي. فقد حضرها أكثر من 200 وفد رسمي من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك 4 ملوك، 5 ملوك سابقين، 70 رئيس دولة، و17 رئيس حكومة، إضافة إلى ممثلين عن الأمم المتحدة والجامعة العربية.

مشهد نادر جمع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن مع والده جورج بوش الأب والرئيس الأسبق بيل كلينتون، إضافة إلى حضور الأمير تشارلز الذي أجّل زفافه احتراماً للجنازة. ومن المشاهد اللافتة جلوس الرئيس الإيراني محمد خاتمي قرب الوفد الإسرائيلي، وسط ترتيبات بروتوكولية دقيقة لتجنب التوترات.

جنازة البابا بنديكتوس السادس عشر (2023): بساطة مع احترام التقاليد
اختلفت جنازة البابا بنديكتوس السادس عشر عن سابقاتها من حيث الحضور والزخم السياسي، إذ شارك عدد أقل من رؤساء الدول، واقتصرت تمثيلات كثيرة على وزراء وسفراء. أُجريت المراسم بهدوء، مع احترام البروتوكولات الفاتيكانية المعتادة، ولكن من دون الطابع الملكي الذي ميّز جنازة يوحنا بولس الثاني.

استثناءات متوقّعة في جنازة البابا فرنسيس
لم يكفّ البابا فرنسيس، حتى في وداعه الأخير، عن التعبير عن روحه البسيطة التي ميّزت حبريّته منذ البداية، رافضاً المظاهر الباذخة التي لطالما رافقت منصب البابوية. فمنذ تولّيه السدة البابوية، كان حريصاً على الابتعاد عن الأزياء الفخمة والسكن في الشقق البابوية الفخمة، مفضّلاً العيش في بيت الضيافة البسيط "كازا سانتا مارتا" داخل الفاتيكان.

وانسجاماً مع هذا النهج، أجرى البابا تعديلات جوهرية على طقوس الجنازة البابوية عام 2024، بهدف تبسيط مراسم الوداع. فبدل أن يُعرض جثمانه المحنّط على منصة مرتفعة في القصر الرسولي، كما جرت العادة منذ القرن الثالث عشر، قرّر إلغاء هذه الممارسة، واختار أن تكون المشاهدة العامة مباشرة في بازيليكا القديس بطرس. وسيبقى الجثمان داخل النعش، من دون رفعه على منصة، في خطوة أراد من خلالها "التأكيد على التواضع بدلاً من التمجيد"، بحسب المؤرّخ الكنسي أغوستينو بارافيتشيني باجلياني.

وبحسب ما جاء في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن من أبرز التغييرات التي أدخلها فرنسيس على الطقوس، قراره أن يُدفن في نعش واحد فقط مصنوع من الخشب ومبطّن بالزنك، مخالفاً التقليد القديم الذي كان يقضي باستخدام ثلاثة توابيت متداخلة. وسيُغطّى وجه البابا بوشاح حريري أبيض في الليلة ما قبل الجنازة، ويُدفن مع حقيبة تحتوي على عملات نقدية تم سكّها خلال حبريته، إضافة إلى وثيقة "الروغيتو" (Rogito) التي تلخّص أبرز معالم حياته وحبريته، وتُقرأ بصوت عالٍ قبل إغلاق النعش.

وبخلاف التقاليد التي تفرض الدفن في سرداب كاتدرائية القديس بطرس، استفاد البابا فرنسيس من التعديلات الجديدة التي تسمح بدفن البابا في كنيسة أخرى، فاختار أن يُدفن في بازيليكا القديسة مريم الكبرى (Santa Maria Maggiore)، الكنيسة العزيزة على قلبه، والتي كان يزورها للصلاة أمام أيقونة العذراء "سالوس بوبولي روماني" قبل كل رحلة رسولية وبعدها.

أما مراسم الجنازة الرسمية، فستبدأ العاشرة صباح السبت 26 نيسان/أبريل 2025، أمام ساحة كاتدرائية القديس بطرس، بعدها سينقل النعش الى داخل الكاتدرائية ثم إلى بازيليكا القديسة مريم الكبرى، حيث يوارى، وفقاً لوصيته الأخيرة.

يبقى أن مراسم دفن البابا، وإن حملت عبر التاريخ طابعاً ملكياً بامتياز، تعكس اليوم صراعاً هادئاً بين المحافظة على التقاليد العريقة من جهة، وروح البساطة والتجديد التي يحملها البابا فرنسيس من جهة أخرى. وبين رهبة اللحظة ودقة البروتوكول، يظل وداع رأس الكنيسة الكاثوليكية حدثاً عالمياً يختزل في تفاصيله الإيمان والرمزية والامتداد التاريخي.