إجازة الأمومة المجحفة في لبنان: "افتراء مبكر"

كتبت كارولين عاكوم في النهار: 
 تحقق المرأة في لبنان حلم الأمومة فهو ليس بالأمر السّهل على مختلف المستويات، إذ بالإضافة إلى كل العوائق التي قد تواجهها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فإن القوانين المجحفة بحقّ ممارستها للأمومة، مع ما يرافقها من تغيّرات جذريّة تطرأ على حياتها من الناحية الصحيّة والنفسيّة، تضعها أمام خيارات وظروف صعبة.

وفي لبنان، لا تُمنح الأم العاملة أكثر من عشرة أسابيع إجازة أمومة وفق قانون عدّل في العام 2014، بعدما كانت تقتصر الإجازة على سبعة أسابيع، في خطوة لا تزال مخالفة لاتفاقية منظّمة العمل الدولية التي نصّت على "حق المرأة بالحصول على إجازة أمومة لا تقلّ مدّتها عن أربعة عشر أسبوعاً".
 
مع العلم أنه في البلدان التي تُقدّر أهمية السنة الأولى من عمر الطفل وعلاقته بأمّه، كأوروبا الشرقية وكندا، تُمنح الأم العاملة إجازة أمومة لعام كامل براتب مدفوع، كما من الممكن أن يتقاسم الوالدَان الإجازة بشرط أن يستطيع الوالدُ تأدية دور الأم في هذه الحالة.
 
وفيما لا تزال هناك مطالبات ومبادرات في لبنان لتعديل هذا القانون وإنصاف الأم بالحدّ الأدنى، هناك من يرفض منح #إجازة الأمومة، بالرغم من مخالفته القانون. وهذا ما تعكسه حالة من مئات الحالات التي قد لا تجرؤ السيّدات على الإفصاح عنها خوفاً من خسارة عملهن؛ وهذا ما حصل مع صحافية لبنانية قرّرت الإنجاب بعد 15 سنة من العمل في مؤسّسة إعلامية اتّخذت قراراً بالاستغناء عنها لأنها طالبت بالحصول على حقّها.
 
تقول الصحافية التي تفضّل عدم ذكر اسمها: "كنت أعمل في إحدى المؤسّسات الإعلامية وفق عقد عمل رسميّ يتضمّن تسجيل اسمي في الضمان الاجتماعي. وكان الاتفاق الضمنيّ بيننا أن لا يكون الراتب كبيراً مقابل موافقتهم على أن لا أحضر إلى المكتب، وعلى أن أقوم بعملي بشكل يوميّ كأيّ موظف، وهو ما دام لـ15 عاماً، إلى أن قرّروا التصرف بشكل غير أخلاقيّ وغير إنسانيّ لمجرد أنني طالبت بحصولي على إجازة الأمومة كاملة".
وتوضح بأنه بعد وضعها حملها بأسبوع، اتّصلوا بها طالبين إليها العودة إلى العمل؛ وعندما رفضت امتنعوا عن تحويل راتبها آخر الشهر كما لم يكترثوا لخطوة لجوئها إلى القضاء ورفع دعوى ضدهم، لا سيّما أنّه منذ العام 2019 لم تعقد أيّ جلسة للنظر في الدّعوى التي قدّمتها ضدّهم، فيما التعويض المادي الذي كان يفترض أن تحصل عليه لم يعد له قيمة.
 
وانطلاقاً من تجربتها، تعتبر الصحافية اللبنانية، التي خسرت عملها بالراتب الثابت، وعادت مضطرة إلى العمل "كفريلانسر"، بعد أسبوعين على ولادتها، أن إجازة الأمومة يجب أن لا تقلّ عن سنة. وتقول أن "الأمومة التي تتطلّب جهداً نفسياً وجسدياً مهمّة صعبة، فكيف إذا كانت المرأة تعمل في مجال الصحافة حيث تتعرّض للضغط، ووقت العمل يكون طويلاً". وتضيف: "أنظر إلى الوقت الذي مرّ، فأكتشف أنني لم أستمتع بأمومتي، خاصّة في السنة الأولى إذ عملت تحت ضغط كبير نتيجة الأوضاع التي كان يمرّ بها لبنان؛ وهنا لا يختلف الأمر إذا كان العمل خارج المنزل أو داخله، فقد كنت أهتمّ بطفلي وتأمين حاجياته وأقوم بعملي في الوقت نفسه".
 
 
العودة المبكرة إلى العمل قد تنعكس سلباً على صحة الأم
 
يرى الطب أنّ فترة الأمومة لـ70 يوماً قد تُعدّ مقبولة بشكل عام حتى تستعيد المرأة قواها للخروج من المنزل، لكنّها ليست الأفضل وغير كافية، خصوصاً للنساء العاملات، إذ يحذّر المتخصّص في الجراحة النسائية والتوليد في مستشفى القديس جاورجويس، الدكتور جو فغالي، من العودة المبكرة للأم، التي وضعت رضيعها حديثاً، إلى العمل، لا سيّما إن كان عملها يتطلّب جهداً كبيراً، لأنّه يرتّب أعراضاً جانبية على صحّتها، كالنزيف والهبوط في الرحم. وهنا يشرح فغالي الحالة الطبية للأمّ بعد الولادة: "خلال فترة الحمل، تتمدّد أوتار الجسد لدى المرأة، وهذا ما يزيد من خطر إصابتها بآلام شديدة في الظهر، في حين يتطلّب تقلّص الأوتار من جديد بعد الولادة فترة 3 أشهر".
 
وتختلف مدّة تعافي الأمّهات في فترة ما بعد الولادة بين حالة وأخرى، بحسب أوضاعهنّ الصحيّة برأي فغالي، "فإنّ الفترة المثاليّة لاستعادة الأم نشاطها تتراوح ما بين 3 أشهر كحدّ أدنى للولادة الطبيعية، و6 أشهر كحدّ أقصى للقيصريّة؛ ولهذا نوصي باعتماد فترة إجازة الأمومة لـ3 أشهر على الأقلّ، كي تساعدها على استعادة قدراتها، واستئناف عملها من دون خطر التعرّض لمشكلات صحيّة".
 
 
 
ابتعاد الأم عن طفلها قبل عمر السنة "افتراء مبكر"
 
تشكّل إجازة الأمومة المختصرة في لبنان عائقاً إضافيّاً أمام إمكانية المواءمة بين حياة المرأة المهنية وعلاقتها النفسيّة والفيزيولوجية برضيعها، لأن "تفكيرها لن يكون حاضراً بشكل كامل للاستجابة لمتطلّبات العمل، بسبب قلقها على طفلها في غيابها"، بحسب الاختصاصية في التحليل والعلاج النفسي الدكتورة منى شرباتي، التي توصي بأن "يقتصر الاهتمام بالطفل على شخصين فقط في داخل منزله خلال الأشهر الأولى".
 
وترى شرباتي في تقليص فترة إجازة الأمومة إجحافاً بحقوق الأم العاملة، معتبرة أنّ الفترة الأمثل لإجازتها يجب أن لا تقلّ عن 3 أشهر، وتقترح أن "تؤدي الأم عملها في العام الأول من عمر الطفل بدوام جزئيّ أو من المنزل".
 
الانفصال الذي تخلّفه عودة الأم القسرية إلى عملها بعد 70 يوماً فقط من وضعها رضيعها يُعرَف علميّاً باصطلاح "الافتراء المبكر"، بحسب شرباتي التي تشرح هذه الحالة بالقول: "عندما تترك الأم رضيعها غير الممكَّن نفسيّاً قبل بلوغه العام من العمر، لوقت طويل، سيشعر وكأنها تخلّت عنه، ممّا يولّد لديه شعور بالضياع".
الانقطاع المفاجئ عن الرضاعة يؤثر في العلاقة الاندماجية بين الأم والطفل
 
يتحدث الدكتور جو فغالي عن تأثير ابتعاد الأم عن طفلها خلال فترة الرضاعة، معتبراً أن العلاقة التي تنشأ بين الأم ورضيعها منذ الولادة تتغذّى غرائزيّاً عبر الرضاعة الطبيعيّة، فيما يُساهم الانقطاع المفاجئ لها، بخلل في جوهرها، إضافة إلى تقلّص الفوائد الغذائيّة الأساسية التي يكتسبها الرضيع من الحليب الطبيعي.
 
ويلفت إلى أنّ فترة الرضاعة الطبيعية الجيّدة للطفل هي 6 أشهر كحدّ أدنى. أمّا بالنسبة إلى الأم فكلّما زادت مدّة الرّضاعة، كان الأثر الإيجابي أكبر على صحّتها، والأهم وقايتها من أمراض الثدي". ويشير فغالي إلى عدد من الحالات التي يواجهها خلال عمله حين تفضّل النساء ترك أعمالهنَّ للبقاء إلى جانب أطفالهنَّ، وهو ما يصفه بـ"التضحية الكبيرة".
 
من الناحية النفسية، يؤثر اضطرار الأم إلى التوقّف عن الرّضاعة الطبيعيّة، وإلى فطام طفلها باكراً، في العلاقة الاندماجيّة بينها وبين رضيعها، وفق شرباتي التي تشدّد على أنّ الأم، من خلال ممارسة الرضاعة الطبيعية، تمنح غنى ومناعة عاطفيّة لطفلها باتّحاد الجسدَين بين بعضهما، مؤكّدة أنّ اللجوء إلى تخزين حليب الأم الطبيعيّ يغذّي الطفل جسديّاً لا نفسيّاً.
 
اقتراح قانون لتمديد إجازة الأمومة
 
أمام هذا الواقع، تعمل الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللبنانيّة بالتعاون مع عدد من المنظّمات للدفع باتجاه تعديل القانون؛ وهو ما تتحدث عنه رئيسة الهيئة كلودين عون، موضحة بأن أبرز المطالب التي ينصّ عليها الاقتراح هو تمديد إجازة الأمومة إلى 15 أسبوعاً بدلاً من عشرة أسابيع، مع ما يرافق ذلك من تحسين البيئة التشريعيّة والناظمة لعمل النساء لضمان المساواة بين العاملين والعاملات على المستويات كافة، أبرزها تأمين استفادة الوالد من إجازة أبوّة، بأجر كامل، مدّتها عشرة أيّام خلال الأشهر الثلاثة التي تلي الولادة، بالإضافة إلى تأمين استفادة الأب والأم من إجازة مرضيّة للأولاد، مدّتها 7 أيام سنويّاً للأطفال الذين لم يتجاوزوا سنتهم السابعة.
ويتضمّن الاقتراح - بحسب عون - تأمين شروط عمل أكثر ملاءمة للأمهات، عبر تمكينهن من تأمين الرّضاعة لمواليدهن الجدد بتخصيص ساعة في اليوم خلال دوام العمل لضخّ الحليب، لمدّة سنة بعد انقضاء إجازة الأمومة، بالإضافة إلى تأمين الحاضنات لأطفال العاملين أو بدل أجرة الحضانة لهم.
 
وتلفت عون إلى أن الهيئة تعاونت في إعداد هذا الاقتراح وتطويره مع المعهد العربي للمرأة في الجامعة اللبنانية الأميركية، حيث تم الاعتماد على المواثيق الدولية والوطنية ذات الصلة، أبرزها: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ومواثيق منظمة العمل الدولية ذات الصلة، وتضيف "كما ننطلق من حاجات السيدات وتجاربهنّ على الأرض، كذلك يتمّ استنساب آراء الخبراء والخبيرات في الموضوع من نواب/ نائبات وحقوقيين/ات...".
 
وفي حين تشير عون إلى أن اقتراح القانون لا يزال في البرلمان قيد الدرس، وهو لم يلقَ الدعم الكافي لإقراره، تتحدّث عن أهمّ العوائق التي تواجه الفريق، وهي أن قضايا المرأة ليست أولوية لدى القادة السياسيين الذين يتذرّعون بالأزمات السياسيّة والاقتصاديّة في حين أن النهوض بقضايا المرأة من شأنه أن يُساهم في النهوض من هذه الأزمات.
 
أمام هذا الواقع، لا تزال الأمّ اللبنانية، التي تطمح لتنجح في عملها وأمومتها، تعوّل على مثل هذه المبادرات التي تتطلّب دعماً من النواب الذين تقع عليهم مهمة إقرار القوانين، علّها تساعدها في مهمتها المزدوجة، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي ترزح تحتها العائلات اللبنانية.