المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ماريان زوين
الاثنين 23 حزيران 2025 07:19:17
في لحظة إقليمية مشتعلة، تتسارع فيها الحوادث وتتداخل الجبهات، قد يظنّ البعض أنّ لا وقت للغوص في تفاصيل الداخل اللبناني. لكنّ الحقيقة أن هذه اللحظة تحديدًا هي الأمثل لإعادة ترتيب البيت اللبناني، وتطبيق ما كُتب، ليس فقط في البيانات الوزارية وخطابات القسم، بل في جوهر الدستور اللبناني.
طبعاً على رأس سلّم الأولويّات، استرجاع السيادة وحصر السلاح بالدّولة، أمرٌ كما غيره من المسؤوليات البديهية للدّولة اللبنانية، لا يتحقّق في ظل مؤسسات معطّلة، وانتخابات مؤجّلة، وتمثيل شعبي مختلّ. من هنا يأتي هذا المقال «على بكّير» ليذكّر بما تعهّدت به السّلطة الجديدة، وهو السعي إلى إجراء الاستحقاقات في موعدها، فالتحضير الجدّي للانتخابات النيابية المقبلة لم يعد خياراً، بل أصبح واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا. كل ما عاشه اللبنانيون في السنوات الأربع الماضية من انهيارات وحروب ومجلس نواب مشلول، يستدعي فتح الصناديق في وقتها... ومن دون أي تلاعب بقانون انتخاب يحفظ صحّة التمثيل.
في هذا السياق، تتقدّم إلى الواجهة مسألة أساسية لا تزال محلّ نقاش داخل اللجنة النيابية الفرعية المعنية بدرس اقتراحات قوانين الانتخابات، اقتراع المغتربين.
هي مسألة جوهرية، لأن مهلة تسجيل المغتربين للاقتراع قد تداهمنا بعد أشهر قليلة، فيما التعديلات اللازمة لم تُقرّ بعد، ما يفتح الباب مجددًا أمام خطر تطيير الإصلاح بحجّة ضيق الوقت، وكأن الزمن يُستخدم ذريعة للتراجع لا حافزاً للإقرار.
كلّما فُتح هذا الملف، يُعاد طرح الصيغة التي تنصّ على تخصيص 6 مقاعد فقط للمغتربين، موزّعة على «دائرة 16» وهميّة، منفصلة عن الدوائر الـ 15 المعتمدة داخل لبنان. طرح يبدو شكليًا وتنظيميًا، لكنه يحمل في طيّاته خطرًا على جوهر العملية الديمقراطية.
لماذا يُصرّ الفريق السيادي، ومن خلفه كل الحريصين على العدالة الانتخابية، على أن يصوّت المغتربون في دوائرهم الأصلية؟ لأن في ذلك اعترافاً بأنهم مواطنون كاملو الحقوق، لا يحتاجون إلى «مقاعد تجميلية»، بل إلى تمثيل فعلي وفاعل. فهم جزء لا يتجزأ من النسيج اللبناني، وركن أساس في اقتصاده، وامتداد طبيعي لعائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية. يقصدون قراهم سنوياً، يساهمون في بنية لبنان الاجتماعية والاستثمارية، ويملكون الأحقية بأن يشاركوا في اختيار من يمثل هذه القرى في المجلس النيابي.
أما ما يُسمّى «الدائرة 16»، فليس سوى مساحة رمادية، مفصولة عن الواقع، لا يُعرف فيها مَن يُحاسب مَن، ولا كيف يُراقب النائب المنتخب، ولا حتى كيف يُبنى التفاعل بين الناخب وممثله.
وفي وقت يخضع فيه الناخب المقيم لضغوط مذهبية، أو عقائديّة حتّى كما لحسابات خدماتية، يتمتّع المغترب بحرية رأي أكبر، وبقدرة أوسع على المحاسبة، ويميل أكثر إلى دعم خيارات الدولة على حساب منطق فائض القوّة الترهيبي. ولهذا بالتحديد، تسعى قوى الأمر الواقع، من «حزب الله» إلى «التيار الوطني الحر»، إلى تحجيم هذا الصوت، وقصّ أجنحته، ومنعه من تغيير التوازنات.
المادة 27 من الدستور اللبناني واضحة: «النائب يمثّل الأمة جمعاء»، لا منطق فيها لفصل المغترب عن المقيم. ومن يُصرّ على الإبقاء على «الدائرة 16» يُفرغ الانتخابات من معناها، ويحوّل مشاركة غير المقيمين إلى مجرّد ديكور انتخابي.
لبنان الذي يستنزف شبابه وخبراته يوماً بعد يوم، لا يستطيع أن يستمر في إدارة الظهر لمغتربيه. عددٌ لا يُستهان به ممن غادروا لبنان في السنوات الستّ الأخيرة لم يفعلوا ذلك طوعاً ولا رغبةً في اغتراب دائم، بل دُفعوا قسراً إليه هرباً من سلطة فجّرت مرفأهم، نهبت أموالهم، وجرّت وطنهم إلى حافة الانهيار والحروب العبثية. هم ضحايا منظومة تُمعن في إقصائهم، ثم تمنعهم من التأثير في مستقبل وطنهم عبر حرمانهم من التصويت للنواب الـ 128، وكأنّها تخشى محاسبتهم. هؤلاء ليسوا مغتربين إلى الأبد، بل ينتظرون فرصة للعودة، وكثيرون منهم يقولونها بوضوح: «إذا تحسّن لبنان، منرجع فورًا». فلماذا نُصرّ على تعزيز غربتهم بتمثيل هزيل ومشوّه في 6 مقاعد غامضة الهوية والفعالية؟ ولماذا نمنحهم تمثيلًا «خارجياً» وهم أساساً يعيشون في دول تحترمهم وتؤمّن حقوقهم؟ الأَولى بالدولة اللبنانية أن ترفع مستواها إلى مستوى مواطنيها، وأن تمثّلهم جميعاً، داخل الحدود وخارجها، بالكرامة والعدالة نفسها.
اقتراع المغتربين في أماكنهم الطبيعية ليس تفصيلًا قانونيًا، بل هو امتحان نوايا لكل من يرفع شعارات الإصلاح والعدالة والديمقراطية.