الانتخابات النيابيّة أمّ المعارك.. وتحالف شباب لبنان مع الاغتراب هو تحالف الحُريّة

باستهجانٍ شديد، وبوقاحة مهينةٍ لذكاء المغتربين، وبدون حياء، ينبري البعض في مجلس النواب لإلغاء التعديل الذي حصل في الدورتين الانتخابيتين السابقتين، والذي سمح بأن تصبَّ أصوات المنتشرين في الدوائر الانتخابيّة في لبنان. وتحت شعار “إعطاء المغتربين حقوقهم” يحاول هذا البعض تحصين المنظومة من الصوت الاغترابي الحر، عبر تصدير المحاصصة الطائفيّة إلى المنتشرين، و”المنّ” عليهم بستة نواب، وعبر حجب النظر عن القضيّة الأساس، وهي “التغيير” والمشاركة في صنع القرار في لبنان، فلعلّ إلهاء الصوت الاغترابي (الحر من الترغيب والترهيب) عن المحاسبة، يُحكم لجم الصوت الذي لا تستطيع “محادل” المنظومة وماكيناتها الانتخابيّة أن تتوقعه أو تسيطر عليه.

اللبنانيون وإضاعة الفرص

نحن متخصّصون بإضاعة الفُرص، أضاع اللبنانيون فرصاً كثيرةً في تاريخهم الحديث، خاصةً في القرن الماضي، منذ قيام دولة لبنان الكبير، وعشيّة “ميثاق” 1943، الذي لم يستطع أن يبني دولة “المواطنة”، بل بنى نظاماً طائفيّاً هشّاً فتح الأبواب للصراعات الإقليميّة، والفتن الداخليّة، والفساد، وأدّى إلى الحرب الأهليّة التي لمّا نزل نعاني من نتائجها حتى اليوم، والتي انتهت باتفاق الطائف الذي طُبِّق انتقائيّاً، ليلائم المُحتل السوري، وليرسي منظومة الفساد “المتحالفة” تحت الطاولة، و”المختلفة” فوقها.

وفي الألفيّة الثانية أضاع اللبنانيون الفرصة بعد الانسحاب السوري سنة 2005، وكأنَّ الوصاية مستمرة في النفوس، لا في النصوص، فاستبدلوا احتلالاً باحتلالٍ آخر، ومن ثَمّ أضاعوا ثمرة انتفاضتهم العابرة للطوائف سنة 2019، ووقعوا مُجدّداً في شباك المنظومة، منظومة الفساد القديمة-الجديدة، والمتواطئة، كما دوماً، مع الطغاة، ولإنْ تبدّل اسمُ الطاغية في شرقنا المُعذّب، زماناً ومكاناً، فالطاغيةُ واحد، والفاسدون يتوالدون من رَحِمٍ واحد.

وفرصة لبنان اليوم متمثلةٌ بسقوط الطاغية في دمشق، وبانهزام محور الممانعة، وانهيار حزب الله العسكري، وبعهد جديد يدير عمليّة الإصلاح، ومعركة حصر السلاح بيد الدولة، تحت المجهر الدولي، تقييماً ونتائج، في محاولات استعادة سيادة الدولة على كامل أراضيها.

لقد برهن جوزاف عون أنّه يستطيع أن يجري انتخابات بلديّة نزيهةً وشفافةً، واستطاع نوّاف سلام أن يبرهن أنَّ فريق عمله مهنيّ وصارم، فلعلها المرة الأولى، منذ الاستقلال، وبالرغم من كل التحديات الأمنية، ومن تداعيات حرب الإسناد، والمعوّقات الإداريّة والتقنيّة والماديّة، تبرهن فيها الدولة أنها تستطيع أن تكون على الحياد، وأن تستعمل القوى الأمنيّة والقانونيّة، لا لترهيب المعارضين، بل لانتصار العمليّة الديمقراطيّة، بالرغم من شوائب ممارسيها. إنه انتصارٌ لجوزاف عون ونوّاف سلام، وتعبيرٌ عن ثقة يُبنى عليها في الانتخابات النيابيّة المقبلة، ولكنّه انهزامٌ للديمقراطيّة التي بدت “عشائريّة”، والتي اختلط فيها حابلُ السياسة، بوابل الإقطاع، والمال السياسي، ووهج السلاح، مع هزالةٍ في المشاركة، خاصةً في جبل لبنان، (19.46%)، وأقلها في المتن (16.44%)، وبعبدا (16.51%).

إنَّ أرقام جبل لبنان تدقُّ ناقوس الخطر، ونتائج الانتخابات البلدية تدلُّ على استمرار “الخنوع” للضغوط، والمغريات على السواء، فالتحرر في لبنان أمامه طريق متعرّجة ووعرة، ولن تستقيم، هذه الطريق، إلا بالصوت الاغترابي الحر. فمن نِسَب التصويت نتيقّن أنّ الهجرة هي سيدة الموقف، والشباب يغادرون، طلباً للاستقرار، ويأساً من الحروب، فالديمقراطيّة العشائريّة لا تمثلهم، فهم، بالتأكيد، سيلاقون أقرانهم المنتشرين في النضال لاستعادة الحقوق المسلوبة، ولتحرير لبنان، ليس من الاحتلالات والتدخلات الإقليميّة فحسب، بل من المنظومة التي عاثت بلبنان فساداً ونهباً. إنَّ المغتربين اليوم هم جذوة التغيير المنشود، وهم قوّةٌ بدأت تتكوّن، وتعرف قدرتها، وستمارس دورها، فهي لن تسامح بعد اليوم من فرّطَ بالسيادة، ونهبَ أموال لبنان واللبنانيين، مقيمين ومغتربين، وهي لذلك ترعب المنظومة وأدواتها.

انتخابات 2022 الاغترابيّة مُحفّزٌ يدكُّ أسوار مناعة المنظومة

في الأرقام: في انتخابات 2018 تسجّل 82000 مغترب للاقتراع في الخارج، أما في 2022 فقد ارتفع العدد إلى 225114. بالرغم من هذه الزيادة يبقى العدد بعيداً عن المرتجى، وذلك لأسباب عديدة، أولها، إحجام البعض عن التسجيل لأسباب نوستالجيّة، حيث يرغب في إبقاء الأسماء على لوائح الشطب الأساسيّة، وثانيها، عدم وجود مكننة تسهل الاستحصال على الأوراق اللازمة، فالدولة “العثمانيّة” في الإدارة يمقتها المغترب الذي اعتاد على إدارات دول الإقامة المتطورة. وثالثها، توزيع مراكز الاقتراع على المدن التي فيها سفارة أو قنصليّة، واضطرار البعض للسفر من أجل الاقتراع، (ويمكن حل ذلك عبر التعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الدوليّة المدافعة عن الديمقراطية لوجستيّاً وماديّاً).

ولكن نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة أثبتت، بما لا يقبل الشك، أنّ الصوت الاغترابي فاعل، ومؤثر في ترجيح كفة الفوز في الدوائر الانتخابية، وهذا ما سيشجع المغتربين على التسجيل كي يساهموا في التغيير المطلوب. فلن يقعد المغتربون عن القيام بواجبهم هذه المرة، خاصةً في ظلّ المتغيّرات الإقليميّة والدوليّة، فالأمل مفتوح للتغيير عبر الانتخابات، بالرغم من وجود قانون انتخاب مسخ، فصّله صانعوه “حواصل” لتقاسم الحصص. وانطلاقاً من معرفتي وتجربتي الاغترابيّة، وفي كل القارات، ( انتخبت رئيساً للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم سنة 2016، وعارضنا منذ 2018 إعطاء نواب للاغتراب) أقول: إنّ المغتربين اليوم يعرفون أنّ مستقبل لبنان الدولة السيدة الحرة العادلة منوطٌ بهم، وبيقظتهم، فمنظماتهم المتحالفة في الخارج من أجل لبنان، واللوبي اللبناني في كل دولة، خاصةً في عواصم القرار، وشخصياتهم المؤثرة، ومفكروهم، لن يسمحوا هذه المرة، ولو حتى بقانون لم يقتنعوا به منذ البدء، أن يُغيّبَ دورهم. إنّ الميكيافيليّة السياسيّة مفضوحة سلفاً، ولن تستطيع قوى الأوليغارشيا المتحالفة أن توقف رغبة إحداث التغيير عبر الانتخابات، ونزاهة الدولة في الانتخابات البلدية، ولأوّل مرة، هي المُحفّز الحاسم.

وبما أنّ المنظومة تتحسّس الخطر القادم من الصوت الاغترابي، فهي بدأت بتحرُّكَين مشبوهين، أحدهما إعلامي، والآخر قانوني:

حملة ديماغوجيّة إعلاميّة مشبوهة

تطالعنا بعض وسائل الإعلام، المرئيّ خاصةً، بحملةٍ منظمةٍ على “التغييريين”، وأعتبرها مشبوهةً لأنها تخلط، عن قصد، أو غير قصد، بين “التغييريين” كأشخاص، و”التغيير” كهدف. إنّ الاعتراض، شكلاً ومضموناً، على ممارسة نائبٍ تغييريّ حق، لا بل واجب، لكن، أن نكيل لثورة اللبنانيين سنة 2019، فنلصق بها كل الأزمات، وعلى رأسها الأزمة الماليّة، وأن ننضم لجوقة “المهللين” من المنظومة، أولئك الذين لم يجرؤوا على احتساء فنجان قهوة في مكانٍ عام خلال الثورة، فهذا، لعمري، مثيرٌ للتساؤلات، ومحطُّ رَيبة.

حملة قانونيّة تشريعيّة خطيرة

كلنا نذكر تباهي رجالات النظام الإيراني بنتائج الانتخابات اللبنانيّة، وفوز حزب الله وحلفائه فيها، فتبجّح طغاة الملالي لا يقلّ أهميّةً عن إعلانهم السيطرة على عواصم عربيّة، ويبدو، بعد هزيمته المدوية عسكريّاً، أنّ حزبَ الله يخشى، مع حلفائه، الهزيمة السياسيّة، فانقضّ، مع حلفائه مُجدّداً، على حقّ المغتربين المشروع في المراقبة، والمحاسبة عبر الاقتراع، وبدأت حملة إلغاء الصوت المغترب الحر، حيث تشكلت مؤخراً لجنة برلمانية للبت بموضوع اقتراع المغتربين.

موقف حزب الله مفهوم، ومعه موقف حركة أمل، لأنّ وهج السلاح في الخارج لا ينفع، وتوزيع المغانم والمال والوظائف لا يستقيم مع المغترب، خاصةً بعد موجات الهجرة الحديثة، فإنّ خرق لوائح الثنائي عبر الصوت الشيعي الحر من الخارج، وبعد الدمار والهزيمة، قد يصبح احتمالاً ماثلاً، وبقوّة.

قد نتفهّم موقف المردة أيضاً، فأدبيّات سليمان فرنجيّة في التماهي مع حزب الله معروفة، وصريحة. لكنّ التساؤل الممزوج بالاستهجان والخذلان يتأتّى من موقف التيار الوطني الحر، فيبدو أنّ الاستثمار في مؤتمرات “الطاقة الاغترابيّة”، (التي اكتشف المغتربون أنها سجلت كمؤسسة خاصة يديرها حزبيّون بموجب مرسوم)، وعراضات وزارة الخارجيّة والمغتربين، والجولات التي صرف عليها جبران باسيل الملايين من خزينة الدولة، ومن جيوب المغتربين، تبدّد، ولم يرقَ إلى مستوى القناعة لدى الاغتراب ببرنامجه، لأنه، وللأسف، لم يدرك أنّ الأسلوب المعتمد في الخطاب السياسي مع المقيمين لا ينفع مع المغتربين، ولم يفقه أنّ المغتربين، وقبل نشر الوعود البراقة للاستثمار، هم، أولاً وآخراً، خط الدفاع المدني الدولي عن لبنان السيد الحر المستقل قبل كل شيء، فسيادة لبنان هي الأساس، والحريّة هي المشعل، والباقي تفاصيل، والتحالف مع الاحتلال الإيراني للبنان، من هذا المنطلق، لا يُغتفر، لا بل مُميت.

تحالف شباب لبنان والاغتراب هو تحالف الحريّة

المغتربون يرقبون قرار مجلس النوّاب بقلق، وهم على الموعد في حالتي إقرار اقتراع المغتربين في الدوائر الانتخابيّة في لبنان، أو إقرار نوّاب للاغتراب. في الحالة الأولى، وبعد التطورات الداخليّة والإقليميّة، يتحيّن المغتربون فرصة استمرار حملة التغيير، فمهما حاول البعض تهشيم صورة الثورة-الانتفاضة سنة 2019، فإنّ هذه الانتفاضة مطلوبة مجدداً في عهد استعادة الدولة لحصريّة القرار والسلاح، وعشيّة إقرار الإصلاحات المرتقبة من اللبنانيين، ومن العالم. أدبيّات “كلّن يعني كلّن” لم تعد شعاراً صائباً بعد الممارسة، فالتحالف مطلوبٌ مع القوى التغييريّة كافةً، أحزاباً، أفراداً، وكيانات مدنيّة وسياسيّة، بالرغم من الملاحظات على أداء البعض. يبقى أنّ التحالف بين شباب لبنان، الذين يمثلون لوعة الحاضر، ووعد المستقبل، والمغتربين الذين يمثلون جرح الماضي، وحلم الوطن الحر والعادل في آن، هو تحالف الحريّة المرجو نحو غدٍ أفضل.

أما في حال تم إلغاء الصوت الاغترابي المؤثر في الدوائر الانتخابيّة في لبنان، فتوقعوا انتفاضة اغترابيّة لم نعهدها من قبل، نحن نستطلع جذوتها في عواصم القرار. إنّ الذين يعتقدون أنّ ما آلت إليه الأمور في لبنان، منذ ما قبل انتخاب الرئيس جوزاف عون، كان بمعزلٍ عن ضغوط اللبنانيين في مراكز القرار، هم واهمون، فالمغتربون قادرون على قضِّ مضاجع الذين يتآمرون على الصوت الاغترابي، فالمعركة جاهزة لتُفتح، منذ الآن، في الأمم المتحدة، وفي عواصم العالم الحر، وسوف تكون معركة تحرير القرار بامتياز، فحصر السلاح هو انعتاقٌ للحريّة، والتي لم تستطع رصاصات حُرّاس مجلس النواب أن تقتلعها من عيون “الثوار” المفقوءة حول أسوار مجلس النواب الذي كان مُصادراً حتى الأمس القريب.