المصدر: المدن
الكاتب: محمد صبحي
الأحد 27 نيسان 2025 12:12:02
شكّلت هذه الثورة الرمزية الطريقة التي روت بها السينما والمسلسلات التلفزيونية سيرته. لم يعد البابا شخصيةً تُرى من بعيد، بل جسدٌ يُروى، وجهٌ يُصوَّر، بطلٌ في دراما إنسانية. السينما، التي تحتاج إلى صراعٍ ووضوح، وجدت في فرانسيس شخصيةً جديدة: ليس ممثلًا للسرِّ المُستعصي، بل الإنسان الهشّ الكامن في السرِّ. بعبارةٍ أخرى، يبدو الأمر كما لو أن تواصل فرانشيسكو قد أدّى جماليةً، وهذه الجمالية -المُكوّنة من البساطة والجسدية والواقعية- تلقّاها المخرجون وكتاب السيناريو لغةً.
بابا شعبي؟ جماليات القُرب
تتجلّى "جماليات القرب" هذه في عدة عناصر متكرّرة في الأفلام والمسلسلات:
• الجسد المتحرّك، بدلاً من العرش: يُصوَّر فرانسيس دائماً في حركة، بين الناس، على قدميه، ينحني على المرضى، في رحلة. يُصرّ فيلم "نادني فرانسيس" (2015 ، دانييلي لوتشيتي) أيضاً على هذا البعد، جاعلاً من بيرغوليو الشاب "كاهن شارع" موسوماً بالفعل بالمعاناة والنضال المدني.
• الكلمة كإيماءة: كلماته أصبحت بالفعل سيناريو. في فيلم "البابا فرنسيس- رجل يفي بكلمته" (2018، فيم فيندرز)، تصبح خطبه مونولوغات مسرحية حقيقية، مُصمّمة للشاشة بإيقاعٍ، وتوقفات، وذروة.
• الضعف كقوة سردية: في "فراشيسكو" (2020، يفغيني أفينيفسكي)، يُصرّ البابا على إرهاق الجسد، على التقدّم في السن، على التعب. لكن هذه الإنسانية تحديداً هي ما يجعل البابا سينمائياً للغاية: فهو ليس البطل المثالي، بل بطل حياة متوترة.
• غياب الوساطة الكنسية: فبينما كان البابا يُصوَّر في الماضي مفلتراً عبر القصور أو الطقوس الدينية، نجده هنا "عارياً" أمام الكاميرا. وخير مثال على ذلك يوم 27 مارس/آذار 2020، في بداية جائحة كوفيد-19، حين صلّى وحيداً في ساحة القديس بطرس التي كانت تعجّ بالمصلّين، من أجل بشرية خائفة تجرحها آفة مجهولة: الصمت، والمطر، والعزلة أمام أعين العالم أجمع. صورة إنجيلية وواقعية جديدة في آنٍ.
حتى فيلم "في الرحلة" (2022) للمخرج جيانفرانكو روسي، وهو كاتبٌ بارعٌ ومخرجٌ وثائقيٌّ راديكالي، بنى فيلماً يعتمد بالكامل على أرشيف رحلات فرانشيسكو. لكنه لا يجعل منه قصةً صحفية: بل يبني روسّي فسيفساءً عاطفيةً، حيث تتناوب صور فرانشيسكو مع صور الأماكن التي زارها، باحثاً عن الجوهر الروحي للجغرافيا.
في الثقافة الشعبية
فرنسيس هو البابا الوحيد -حتى الآن- الذي دخل إلى عالم الثقافة الشعبية، بما في ذلك السينما، من دون وساطة ساخرة أو غير مُوقّرة. وقد أتاح ذلك إنتاج رسوم كاريكاتورية للأطفال (مثل "فرانسيس- بابا الأطفال")، واعتماد وجهه في القصص والروايات المصوّرة ("فرانسيس: بابا الشعب")، واستخدام صورته في مقاطع الفيديو والأعمال الفنية الرقمية. كما غيّر أسلوب فرانسيس في التواصل قواعد الوصول، فلم تعد السينما هي التي تحاول "دخول الفاتيكان"، بل الفاتيكان هو الذي يخرج، ينفتح، ويصبح قصّة.
البابا السينمائي المنبث من هذه الدورة الجديدة متجسّد بعمق، قريبٌ، ضعيف، ولهذا السبب تحديداً، قوي. إنه بابا لا يخشى أن يُنظر إليه، يُدرك أنه في الصورة، لكنه لا يزال يبحث عن حقيقة ليشاركها، لا عن دورٍ يلعبه. لهذا السبب وجدت فيه السينما ليس موضوعاً فحسب، بل لغةً أيضاً. البابا الذي أصبح شخصيةً بارزةً، لم يعد رمزاً منعزلاً، بل دراما إنسانية مشتركة، صدىً لعصرنا، شاهداً على أملٍ "لا يُقهر".
وأكثر من سيرته الذاتية -وهي المرة الأولى لبابا يسوعي من أميركا الجنوبية، قادماً من تجربة رعوية على هامش أوروبا- فرض التغيير نفسه كمسألة أسلوب، وخيال، وتواصل. والسينما، كمرآةٍ للعصر، استطاعت الاستجابة. فالأمر لا يقتصر على سرد قصّة رجل، بل أيضاً إظهار تحوّلٍ في العصر: من بورتريه للمقدّس محاط بالجلال، إلى تصوير يرحّب بالنقص الإنساني/الواقعي.
وهذا يعني أن تصوير البابا فرنسيس في السينما هو أيضاً تأمّلٌ لاهوتيٌّ في المرئي. إظهار بابا يضحك، ويتأثّر، ويصغي، ويخطئ، يعطي للجمهور صورةً عن الإلهي لا تُقصي الإنسان. صورةٌ -كالسينما- لا تفرض نفسها، بل تُقدّم نفسها. ولهذا السبب بالذات، يظل التساؤل قائماً.