المصدر: الراي الكويتية
الكاتب: إيليا ج. مغناير
الأحد 30 آذار 2025 01:17:52
لم تعد حملةٌ عسكريةٌ إسرائيلية محدودة على لبنان - ما يُطلق عليه «الحرب المصغّرة» - مجرد احتمال. فمع تَزايُد الغارات الجوية، وتَفاقُم الأزمات السياسية، وتنامي الطموح الإستراتيجي في تل أبيب، تبدو الظروف مهيأة لمواجهة. ويَظْهر أن إسرائيل تختبر حدود الرد الدولي، مستغلةً عدم الاستقرار الإقليمي لتحقيق أهدافها.
وقد تكثفت الغارات الجوية في الأسابيع الأخيرة، من حيث النطاق والرمزية. ووقعت إحدى الضربات ذات الدلالة الخاصة قرب الموقع الذي كان مُخطّطاً أن يتم فيه إحياء مهرجان «يوم القدس» في منطقة الحدث في العاصمة اللبنانية بيروت - وهو حدثٌ ذو رمزية عالية تم تأجيله بعد غارة يوم الجمعة.
ويرى المراقبون أن هذا التصعيد اختبار مزدوج : لـ «حزب الله» في ضوء عدم رغبته بالردّ في هذه المرحلة، ولقدرة لبنان الممثّل بقيادته السياسية والعسكرية على الصمود والردّ.
أما بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن حالة التوتر العسكري المستمرّة توفّر غطاءً سياسياً له. إذ مع المعارضة الداخلية، والمعارك القانونية، والاحتجاجات التي تُشكل تحدياً لقيادته والضغوط التي يتعرّض لها بسبب تعامله مع حرب غزة والفشل الأمني في السابع من أكتوبر، يُمثل الصراع أداة توحيد وإلهاءً مُناسباً حيث تتيح إعادة إشعال الجبهة الشمالية أو توسيعها لنتنياهو إعادة ضبط الخطاب العام والحفاظ على الهيمنة السياسية.
ومع عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، يحظى نتنياهو الآن بدعم كامل من واشنطن. فقد قدّمت إدارة ترامب دعماً لا لبس فيه للخروق العسكرية التي تقوم بها إسرائيل، ما منح رئيس وزرائها حريةً أكبر في التصرف دون خوف من عواقب ديبلوماسية. ويمنح هذا التوافق الجيو- سياسي إسرائيل فرصة سانحة للمضي قدماً في عملياتها في لبنان (وفي قطاع غزة والضفة الغربية وسوريا)، مدركةً أنها تتمتع بغطاء دولي قوي.
وتتعرض إستراتيجية «حزب الله» الراسخة للردع لضغوط. فبعد أن كان قادراً على منع التعدي الإسرائيلي من خلال قدراته، يبدو موقفه الحالي مُقيّداً.
ففي أبريل 2023، ردع الحزب إسرائيل عن إزالة خيمتين أقامهما على طول الحدود - وهو عرض رمزي ولكنه مهمّ للقوة. واليوم، تغيّر الوضع بشكل جذري. إذ بعد الضربة القاسية التي تعرّض لها، أصبح عشرات الآلاف من المدنيين الموالين للحزب بلا مأوى بعد الغارات الإسرائيلية المتكرّرة.
وقد تعهدت المنظمة بتغطية إيجارات العائلات النازحة حتى تصبح إعادة الإعمار ممكنة، وهو التزام يفرض ضغطاً مالياً هائلاً ومستمراً على قيادتها. ويزيد من هذا العبء غيابُ خطة دولية لإعادة الإعمار، جزئياً بسبب الضغط الأميركي الذي يربط المساعدات بالتنازلات السياسية.
كما أن توقيت هذه الأزمة، خلال شهر رمضان، يزيد من تعقيد الرد. ففي الضاحية الجنوبية لبيروت - قاعدة الدعم الأساسية للحزب - تضرّرت أو دُمرت العديد من المباني. ومن شأن مطالبة العائلات بتحمّل المزيد من المعاناة في ظل تصاعد الصراع أن يرتّب تكاليف سياسية باهظة.
ومنذ وقف النار في 27 نوفمبر الماضي، أفادت التقارير بأن إسرائيل قتلت أكثر من 110 مدنيين لبنانيين وارتكبت أكثر من 1500 انتهاك للهدنة. وهي تحافظ على منطقة عسكرية عازلة تمتدّ من اللبونة على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى تلة الحمامص، بالقرب من بلدة الخيام الشرقية. ويقوّض استمرار احتلال هذه المنطقة السيادة اللبنانية، ويُشير إلى أن إسرائيل لا تنوي الانسحاب قريباً.
موقف واشنطن وتصريحات أورتاغوس
يوم الجمعة، ألقت نائبة المبعوث الأميركي الخاص مورغان أورتاغوس، باللوم على لبنان في انتهاكات وقف النار، وأيدت «حق» إسرائيل في الرد.
وفي تصريحات صحافية أدلت بها، انتقدت الحكومة اللبنانية لفشلها في كبح جماح «حزب الله»، ودعت إلى إدراج انسحاب إسرائيل من النقاط الحدودية الخمس المتنازَع عليها في المفاوضات الدبلوماسية (أي المباشرة وهذا يُعد اعترافاً بإسرائيل).
وتُمثّل هذه التصريحات تحريفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي يُركّز على إنفاذ وقف النار وسلامة الأراضي.
لم تُشر أورتاغوس إلى الانتهاكات الإسرائيلية والاحتلال المستمر، ولم تُشر إلى الخسائر الإنسانية الأوسع نطاقاً الناجمة عن الهجمات المستمرة، ما يجعل مواقفها تصبّ في خانة الضغط على لبنان للدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وهو أمر يُعارضه «حزب الله» بشدة.
وتقول مصادر قريبة من «حزب الله»، إن الحزب جدّد في اجتماعاته الأخيرة للقيادة تأكيد رفضه القاطع والعمل على منع أي اتفاق سلام أو تطبيع مع إسرائيل، مهما كانت عواقبه.
تُفسر إسرائيل صمت «حزب الله» في مواجهة الضربات المتكررة على أنه ضعف، أو على الأقل فرصة لاستفزازه وللتصرف بحرية أكبر.
لذلك، تبدو إسرائيل وكأنها تمارس ضغوطا عسكرية ودبلوماسية منسقة، ليس فقط على حزب الله، بل على الطبقة السياسية اللبنانية غير المنسجمة في ما بينها. ولا يُستبعد أن الهدف هو تمزيق الوحدة الداخلية ودفع لبنان نحو مسار التطبيع - وهو مسار لطالما قاومه - أو التصادم. ويعكس هذا التكتيك نهجاً إسرائيلياً مألوفاً: التصعيد، والهيمنة، واستخدام التفوق العسكري لتحديد شروطِ أي نتيجةٍ سياسيةٍ مستقبلية.
ويبدو أن إستراتيجية إسرائيل الأوسع نطاقاً هي التطبيع بالاستنزاف. فمن خلال مواصلة الضغط العسكري وإظهار الهيمنة، تسعى إلى تقويض كل من الردع والمقاومة الشعبية في لبنان. وفي هذا السيناريو، يُستبدل الإرهاق بالدبلوماسية: تصبح القوةُ الآليةَ الدافعة للتغيير السياسي، وتصبح الغارات الجوية روتينية، ويُعاد ترسيم الحدود وتَضعف المقاومة السياسية.
الهدف هو إعادة تشكيل الملامح الدبلوماسية للمنطقة من دون التفاوض من منطلق الاحترام المتبادَل. وكلما ظهر هدفٌ ثمين لإسرائيل في قلب بيروت أو أي منطقة خارج جنوب الليطاني تستهدفه، مع أو من دون صواريخ عمياء عديمة الفائدة تُطلق باتجاه مستوطنيها.
الخلاصة
من شأن تجدد الصراع في لبنان أن يخدم المصالح السياسية لنتنياهو على الفور ما يسمح له بتحويل التركيز بعيداً عن التحديات الداخلية.
وقد يكون ضبط النفس الحالي لـ «حزب الله» قراراً مدروساً، لكنه تحت الاختبار. والاستفزاز المستمرّ من الطبيعي أن يُفسر على أنه ضعف، وهو أمر قد يحرص المسؤولون الإسرائيليون على استغلاله.
وعشية انتهاء شهر رمضان، تتأرجح المنطقة على حافة التصعيد. قد لا يكون ما يمكن أن ينشأ حرباً شاملة، بل مواجهة وحشية شديدة التأثير، مصمّمة لفرْض نتائج عجزتْ الديبلوماسية وحدها عن تحقيقها.
سواء رضخ لبنان للضغوط أو صمد، فإن تكلفة هذه المقامرة الإستراتيجية بدأ يُشعر بها بالفعل، والمدنيون اللبنانيون هم من يدفعون الثمن الباهظ.