الحرب النفسية بديلا من أي عمل قد يجرّ دمارا شاملا...

تثير الحرب في غزة وإسرائيل ولبنان تكهنات حول نتائجها، وسط تناقض في نتائج العمليات العسكرية الأخيرة بين إسرائيل من جهة وإيران وحلفائها من جهة أخرى. ويعبّر البعض عن مخاوف من حريق إقليمي، مقدما سيناريوات قاتمة ومستخدما التخويف أداة ديبلوماسية لمنع التصعيد وتحفيز الأطراف على وقف التصعيد. ومع ذلك لا تزال الحرب غير محتملة، لأن الطرفين لا يريدانها تخوفا من نتائج توسعها.

بعد التصعيد الأخير بين "حزب الله" وإسرائيل، ساد افتراض أن الحرب أصبحت وشيكة، وما زالت الإجابة عن هذا التناقض صعبة لأن الصراع القائم لا يؤدي إلى خفض التصعيد بين الأطراف، علما أن التصعيد لا يعني تلقائيا أن الحريق في الشرق الأوسط لا مفر منه.

هذا التصعيد المتبادل يعطل المفاوضات بين إسرائيل و"حماس" ويؤخر التوافق على وقف النار في غزة وجنوب لبنان، كما في الضفة الغربية حيث التهديد بانتفاضة فلسطينية جديدة.

التبادل العسكري بين الحزب وإسرائيل لم يعد حرب مشاغلة في الجنوب، بل صار سعيا إلى المحافظة على مكتسبات لمحور الممانعة. وكان في إمكان الحزب أن يضغط أكثر على إسرائيل للدفاع عن "حماس" قبل فقدانها قدراتها العسكرية، لكنه لم يفعل، وهو لن يشارك في حرب إلا إذا شعر بأنه يواجه تهديدا وجوديا.

أما بالنسبة إلى اغتيال المسؤولين العسكريين، فقد تمكن "حزب الله" خلال العقدين الماضيين من استبدال قادة استشهدوا أكثر نفوذا من فؤاد شكر، بمن فيهم عماد مغنية ومصطفى بدرالدين، ولم يرد يومها على الاغتيالات.

والواقع أن التطورات الإقليمية والدولية والوضع المزري في العديد من الدول، جعلت الشرق الاوسط منطقة لا يمكن توقع مستقبلها، وتميل الترجيحات إلى سيناريوات متفجرة وحريق في المنطقة، إذ إن تصريحات القادة تحولت إلى تهديدات متبادلة بحرب واسعة النطاق.

وكلما اقتربت إسرائيل من تدمير "حماس" زاد احتمال توسع الحرب على جانبي "الخط الأزرق". ورغم أن ليس لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي تردد في توسيع نطاق الحرب لأسباب سياسية ضيقة، فهو يعلم أنه في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب سيتعين عليه الرد على فشله في توقع هجمات السابع من تشرين الأول ونتائجها، وعدم قدرته على إطلاق المخطوفين.

لذلك تعيد إسرائيل والحزب تعريف قواعد الاشتباك التي وضعت ضمنا بعد انتهاء حرب ٢٠٠٦ والقرار الأممي الصادر عن مجلس الامن الدولي رقم ١٧٠١، فيتم قصف مواقع أكثر عمقا داخل إسرائيل ولبنان، لكن ذلك لم يؤدّ حتى الآن إلى حرب إقليمية يمكن أن تندلع في أي لحظة، بل رسم خطوطا حمرا جديدة.

أي خطأ في التقدير قد يؤدي إلى توسع الصراع بين الحزب وإسرائيل، فتشارك فيه أطراف أخرى. ولكن إذا عدنا إلى ٢٠٠٦ ندرك أن الحزب كان يراهن عندما فتح الحرب على أنها ستثبت موقعه السياسي بعدما اتهم بالعديد من الاغتيالات عام ٢٠٠٥، ونشأت بوجهه ووجه حلفائه يومها "ثورة الأرز". أما الآن فإن الحزب يبدو أهم قوة عسكرية في لبنان وأقوى حزب سياسي، ولكن لا يمكنه تعزيز مكانته فيما البلد يعيش وضعا هشا للغاية ماليا واقتصاديا، وهو يمنع انتخاب رئيس للجمهورية منذ ما يقارب السنتين، متفردا بالقرار. لذلك ستشكل أي حرب يخوضها ضررا لموقعه، إلا أنها في الوقت نفسه تحافظ على صدقيته كجهة فاعلة في محاربة إسرائيل.

والحال هذه، تعدّ الحرب النفسية التي يخوضها الطرفان بديلا من أي عمل عسكري كبير قد يؤدي إلى دمار في لبنان وإسرائيل، لذلك تقوم إسرائيل بشن هجمات على أهداف "حزب الله" مستعينة بخبرات عسكرية واستخبارية تشكل رادعا للحزب.

لا يمكن الحديث حتى الآن عن تراجع احتمال نشوب حرب شاملة ما دام الأسطول الأميركي يناور على بعد كيلومترات من الشواطئ اللبنانية. وتفتقر واشنطن إلى نهج معين لمنع انجرار المنطقة نحو حريق شامل، وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي جو بايدن يريد خفض التصعيد لتأمين انتخاب المرشحة الديموقراطية كمالا هاريس، لم يحدد بعد أي خطوط حمر واضحة، علما أنه لا يمكن الولايات المتحدة حجب المساعدات عن إسرائيل خلال حرب من أجل بقائها.

لكل هذه العوامل، ليس منطقيا الحديث عن استقرار في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني العديد من المشاكل، قبل حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بل وقف الأعمال الحربية في غزة والضفة الغربية وعلى الحدود اللبنانية. في هذا السياق، وفي انتظار وقف النار، لا يمكن إعادة إنعاش المنطقة المشتعلة ولبنان إلا بتوافق داخلي يحضر لليوم التالي وإعادة بناء دولة بكل ما للكلمة من معنى.