الرسالة الأميركية مهلة للسلاح وإنذار للتغيير.. وهامش المناورة يضيق

في لحظة إقليمية تزداد فيها حرارة التحولات السياسية والأمنية، تلقَّى لبنان رسالة أميركية واضحة، وإن أتت بلغة ديبلوماسية: أمامكم مهلة حتى نهاية العام الحالي لحصر السلاح بيد الدولة. في ظاهرها، تبدو الرسالة مجرّد دعوة إلى استكمال تطبيق القرارات الدولية، لكنها في جوهرها تعكس نفاد صبر واشنطن، وتحمل ما يشبه الإنذار السياسي الذي يضع الدولة اللبنانية أمام منعطف حاسم في مقاربتها لمسألة سلاح «حزب الله».
 
يطرح هذا التطور تحديات على مستويين متداخلين: داخلي وخارجي.
1-داخلياً، أي تجاوب مع الطرح الأميركي، ولو غير معلن، سيفهمه الحزب وحلفاؤه استهدافاً مباشراً للمقاومة، وسعياً إلى فرض تسوية لا تراعي التوازنات الداخلية. ويُظهر تاريخ لبنان في مقاربة هذا النوع من الملفات أن أي تصعيد سياسي سرعان ما يجد طريقه إلى التوتر الأمني، لا سيما في ظل بيئة منهكة اقتصادياً واجتماعياً.
 
2-خارجياً، تجاهُلُ لبنان الرسالة – الإنذار، أو التباطؤ في التعامل معها، سيُفسَّر في واشنطن والعواصم الغربية على أنه تعطيل لبناني متعمّد، وسيُترجم على الأرجح بمزيد من العزلة والضغوط المالية والديبلوماسية، في وقت يرزح فيه لبنان تحت وطأة انهيار اقتصادي غير مسبوق. وهنا تبرز المفارقة: الدولة مطالبة بحسم موقفها من ملف خلافي داخلي، لكنها في الوقت عينه تُحاسب على موقفها خارجياً، في غياب تام لأي توافق وطني جامع.
 
لكن التحدي لا يقف عند حدود المهلة الأميركية، بل يتشابك مع تحولات أوسع تدور في الإقليم. فالتحولات المتسارعة في سوريا، ولا سيما في السويداء، وما رافقها من تصعيد إسرائيلي غير مسبوق طال مواقع سيادية في دمشق، تشير إلى أن الصراع السوري دخل مرحلة إعادة رسم التوازنات، حيث لم تعد المعارك محلية، بل باتت جزءاً من ميدان إقليمي أشمل.
 
في هذا السياق، تكتسب السويداء رمزية مضاعفة. فهي عند تقاطع الجغرافيا السورية – الأردنية – الإسرائيلية، وتشكل امتداداً طبيعياً للخاصرة اللبنانية. أي خلل في بنيتها الأمنية أو السياسية، يفتح الباب أمام تغييرات كبرى في الجنوب السوري، وهو ما يُقلق إسرائيل ويدفعها إلى تحرّكات استباقية عنيفة. فالتهديد الإسرائيلي باستهداف القصر الرئاسي، ومن ثم القصف الذي طال وزارة الدفاع وهيئة الأركان في دمشق، ليس مجرد ردّ عسكري، بل رسالة سياسية مفادها أن الخطوط الحمراء تغيّرت، وأن إسرائيل لن تنتظر نتائج التسويات لتفرض وقائعها.
في ظل هذا المشهد، يبدو لبنان مكشوفًا تمامًا. فهو من جهة غائب عن طاولة التسويات الإقليمية، ومن جهة ثانية يدفع ثمن هذا الغياب من استقراره السياسي والأمني. وكلما اشتد الضغط على حزب الله في سوريا، ازداد اعتماده على الداخل اللبناني كعمق استراتيجي، مما يرفع من احتمالات التصعيد على الحدود الجنوبية أو في الداخل نفسه، خصوصاً متى تزامنت الضغوط الأميركية مع تحرّكات ميدانية عند الحدود.
 
ليس هذا مجرد سيناريو تصعيد ظرفي، بل نتيجة تراكميّة لتحولات إقليمية متسارعة، من بينها نهاية عصر الجماعات المسلحة غير الحكومية، وتبلور مشروع إقليمي لتوحيد القرار العسكري في الدول المحورية. ولبنان، إن لم يبادر سريعاً إلى صوغ معادلة داخلية متوازنة تحفظ سيادته وتؤمّن توافقاً وطنياً حول موقعه من هذه التغيّرات، سيجد نفسه مجبراً على الانخراط في تسويات مفروضة، أو معزولاً في انتظار الانفجار.
 
أمام هذه المعطيات، يبرز سؤال جوهري: هل يملك لبنان، بتركيبته السياسية المنقسمة، القدرة على اتخاذ قرار سيادي موحد يأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية والضغوط الخارجية؟ أم أن الحسابات الفئوية والرهانات الإقليمية المتناقضة ستُضيّع فرصة قد تكون الأخيرة للخروج من المأزق، قبل أن يتحوّل الضغط الأميركي إلى قرار، والتسويات السورية إلى أمر واقع جديد في جنوب الليطاني وشماله؟
 
من الواضح أن سنة 2025 لا تُشبه سابقاتها. فهي تحمل في طياتها تقاطعًا نادراً بين استحقاق لبناني داخلي بامتياز، يتمثل بضرورة إعادة تعريف دور الدولة وحدود سلطتها، واستحقاق إقليمي يتجاوز لبنان ليطال مجمل البنية الأمنية في الشرق الأوسط. وفي الحالتين، لا يعود التأجيل أو المماطلة خيارًا مقبولًا. فالمهلة التي منحتها واشنطن هي في الحقيقة جزء من مهلة أكبر تفرضها الوقائع الميدانية من سوريا إلى غزة، ومن العراق إلى البحر الأحمر، حيث تتجه القوى الكبرى إلى حسم ملفات النفوذ والسلاح والحدود، فيما لا يزال لبنان أسير صراعاته الصغيرة.
 
يبقى أن على القوى اللبنانية أن تدرك أن هامش المناورة يضيق، وأن تكلفة الانتظار باتت أعلى من كلفة القرار. فالمعادلات التي تحكم الإقليم في طور التغيير، والعواصم المؤثرة تضع أوراقها على الطاولة، وليس من بينها الورقة اللبنانية. لذا، فإن الخروج من مرحلة الإنكار، والتوجّه إلى حوار داخلي مسؤول، لم يعد ترفًا سياسيًا، بل شرطًا للبقاء. وإلّا، فإن الفرصة ستضيع مجددًا، لكن هذه المرة لن يرافقها إنذار جديد، بل واقع مفروض سيغيّر حكماً في الشكل السيادي اللبناني القائم!