الرياض ودمشق: كابل بيانات يمهّد لعودة سوريا الاقتصادية

تجري السعودية وسوريا محادثات لمد كابلات بيانات تربط المملكة بأوروبا، وهي خطوة تُعد جزءاً أساسياً من خطة الرياض لتصبح مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي. وتعتزم سوريا منح المشروع هذا الشهر، بحسب تقارير إعلامية متطابقة، من بينها تقرير نشره موقع "Semafor"، ما فتح الباب لتحليل دلالات هذا التعاون التقني غير المسبوق بين البلدين منذ استئناف العلاقات الدبلوماسية.

مشروع تقني بطابع استراتيجي

وقالت وكالة "رويترز"، إن عدداً من شركات الاتصالات الخليجية، من بينها شركة الاتصالات السعودية "STC"، وشركة زين الكويتية، واتصالات الإماراتية، وأوريدو، دخلت في محادثات مع الحكومة السورية بهدف المنافسة على تنفيذ مشروع كابل بيانات يعرف باسم "ستار لينك"، مشيرة إلى أن قيمة المشروع تُقدر بنحو 300 مليون دولار. ووفق رويترز، امتنعت" STC" عن التعليق المباشر على مشاركتها في المناقصة، بينما تتعامل دمشق مع عروض متعددة قبل اتخاذ قرار الترسية.

في المقابل، نقل موقع "AGBI " الاقتصادي تقديرات أعلى تتراوح بين 400 و500 مليون دولار، موضحاً أن المشروع قد يمتد على مسار بري يصل طوله إلى نحو 4500 كيلومتر، ويربط الخليج بالأردن ثم سوريا وصولاً إلى تركيا وأوروبا، مع قدرات نقل بيانات ضخمة تتماشى مع احتياجات عصر الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية.

لماذا سوريا… ولماذا الآن؟

وتدرك دمشق أن موقعها الجغرافي، الذي كان لعقود جزءاً من طرق التجارة التقليدية بين الشرق والغرب، يمكن أن يتحول اليوم إلى ممر رقمي بالغ الأهمية، يربط آسيا بأوروبا عبر مسار بري مختصر مقارنة بالكابلات البحرية الطويلة المعرّضة للأعطال. وفي تصريحات سابقة لوزارة الاتصالات السورية، أكدت أن مشروع "ستار لينك" جزء من خطة لإعادة بناء العمود الفقري للإنترنت محلياً، وإعادة سوريا إلى الخريطة الرقمية الإقليمية بعد سنوات من العزلة.

بالنسبة لدمشق، لا يمثل المشروع صفقة بنية تحتية فحسب، بل "فرصة عودة اقتصادية" عبر باب منخفض الحساسية سياسياً، إذ يمكن أن يوفر عائدات مالية من رسوم العبور وتشغيل الخطوط، ويخلق شبكة مصالح إقليمية طويلة الأمد مع دول الخليج.

 ذكاء اصطناعي وقوة رقمية

وترى الرياض في المشروع جزءًا من خريطة التحول نحو اقتصاد المعرفة. فوفق تقرير "Semafor"، تسعى المملكة إلى تنويع مسارات نقل البيانات، بما يتناسب مع خطتها لتصبح مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي، خصوصاً مع التوجه إلى استضافة مراكز بيانات عملاقة، وتطوير بنى تحتية تتجاوز الاعتماد التقليدي على الكابلات البحرية.

وتعد النقلة هنا ذات دلالة واضحة: من اقتصاد نفطي قائم على تصدير المواد الخام، إلى اقتصاد رقمي قائم على تصدير البيانات والخدمات الرقمية. فكلما تنوّعت شبكات الربط، زادت قدرة المملكة على جذب الشركات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي التي تبحث عن استقرار تدفق البيانات وسرعة الوصول إلى أوروبا وآسيا في آن واحد.

إعادة رسم خريطة النفوذ الرقمي

وأصبحت ممرات البيانات اليوم أشبه بـ"ممرات نفوذ جيوسياسي"، حيث تعكس الدول قوتها من خلال سيطرتها على مسارات الإنترنت وتدفق المعلومات. وقد برزت أهمية المسارات البديلة بعد الأعطال المتكررة في كابلات البحر الأحمر خلال العامين الماضيين، والتي أدت في بعض الحالات إلى تعطل الإنترنت في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

وبناءً على ذلك، فإن وجود مسار بري يمر عبر الأردن وسوريا يتيح للسعودية خياراً استراتيجياً إضافياً، إلى جانب المسارات البحرية والاتصالات عبر دول أخرى. كما يمنحها قدرة على تقليل اعتمادها على مسارات تمر عبر نقاط سياسية حساسة، الأمر الذي يعزز أمنها الرقمي واستقلاليتها التقنية.

تقارب اقتصادي قبل السياسة

ويشير هذا المشروع، إن أُنجز، إلى صيغة جديدة من التقارب السعودي–السوري عبر الاقتصاد قبل السياسة. فالتعاون في مجال البنية التحتية الرقمية يعد باباً منخفض الحساسية، لا يثير الجدل السياسي نفسه الذي قد تثيره أشكال تعاون أخرى. ومع ذلك، فإنه يخلق مع الوقت تشابك مصالح يصعب التراجع عنه، ويفتح المجال أمام مشاريع تقنية أخرى مثل مراكز البيانات المشتركة، وربط الشبكات السحابية، وخدمات العبور الرقمي بين آسيا وأوروبا.

تاريخياً، بدأت دول عدة في المنطقة إعادة بناء علاقاتها المتوترة عبر الاقتصاد، ومن ثم انتقلت إلى الملفات السياسية، وهذا النموذج قد يتكرر هنا، ولكن بمسار "رقمي" هذه المرة.

 

تحديات ومخاطر

ورغم الآفاق الواسعة، يواجه المشروع عدة تحديات، أبرزها البيئة السياسية والعقوبات المفروضة على سوريا، إضافة إلى المخاطر الأمنية المحتملة لمسار بري يمر بمناطق حساسة أمنياً. كما أن تنفيذ مشروع بهذا الحجم يتطلب ضمانات تشغيل، وتمويلاً واستقراراً طويل الأمد.

من جهة أخرى، قد تثير أي شراكة تقنية سعودية–سورية تساؤلات دولية، خصوصاً من القوى المرتبطة بسوق التكنولوجيا وحركة البيانات عالمياً، إلا أن اختيار قطاع الاتصالات كبداية قد يقلل من حساسية ردود الفعل.

ويعكس مشروع "ستار لينك" تحولاً لافتاً في مقاربة العلاقات بين دمشق والرياض، إذ لا يعتمد على اختراق سياسي مفاجئ، بل على بناء "مصالح رقمية" قد تُمهد تدريجياً لعودة سوريا إلى الاقتصاد الإقليمي من بوابة التكنولوجيا. وبينما تمضي المحادثات، يبقى السؤال: هل سيشكل هذا الكابل أول خيط في شبكة مصالح جديدة تعيد رسم خريطة الربط الرقمي في الشرق الأوسط؟.