السفارة الإيرانية تستفزّ العهد والحكومة... "لبنان ساحتنا"

بينما وضعت السعودية ثقلها الإقليمي وأجرت اتصالات مع القوى الدولية الفاعلة، للحصول على ضمانات من أجل إعادة الحجاج الإيرانيين إلى ديارهم سالمين، عبر ممرات آمنة سُيجت بخطوط حمر جعلتها خارج مدار الاستهداف الإسرائيلي، في استكمال لحلقات رعاية بدأت بالتنسيق مع طهران قبل انطلاق الحجيج، واستمرت طيلة فترة إقامتهم في الديار المقدسة، وبعدما كان أول اتصال يتلقاه وزير خارجية الملالي من نظيره السعودي، لإدانة الضربات الإسرائيلية، والإعراب عن تضامن المملكة مع الجار رغم كل إزعاجاته وتخرّصاته، وكذلك كان أول اتصال تلقاه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من ولي عهد المملكة ورئيس وزرائها، الأمير محمد بن سلمان، أتى ردّ "آيات الله" من قلب بيروت بتجميع "الموالي" في سفارتهم وعرض فيديو عن زوال حكم آل سعود، ووصفهم بـ "عبدة الشيطان"!

يختصر هذا الفيديو مسيرة نظام قام على خطاب الكراهية وتغذية الأحقاد، وارتكز على إحياء تراث "الدولة الصفوية" ومزجه بإرث "دولة الحشاشين"، لإنتاج عصبية شيعية شديدة الغلو والتطرف، شكلت القاعدة المركزية لهوية الملالي ومشروعهم التوسعي. من خلال محتوى الشريط يمكن فهم سبب ردود أفعال الجماهير "الملالية" على منصات التواصل تجاه الدول الخليجية، لكونه يشكل جوهر الخطاب التعبوي عبر الخطب والمواعظ وغيرها من أدوات التواصل.

ومع أن الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع يظهر وكأنّ أحد الأشخاص صوره خلسة بهاتفه، إلا أن الظن يميل إلى كون هذا التسريب متعمدًا، طريقةً ومضمونًا، لأن جميع الحاضرين من الموالي والمنتفعين الخُلُصْ، ولأنه ليس صعبًا على أمن سفارة هي في الأصل "وكر" استخباراتي وأمني ملاحظة عملية التصوير وبسهولة.

ويحمل هذا التسجيل رسالة "ثلاثية الأبعاد" تروم إرباك إسرائيل ودفع حكومتها إلى تسخير جزء من مواردها وقدراتها العسكرية على الجبهة الشمالية، وتهديد السعودية باستهداف أراضيها، واستفزاز لبنان عهدًا وحكومةً، من خلال التأكيد بأنه لا يزال ساحة لـ "الملاليّين" وزبانيتهم، وتقويض موقف الحياد الذي اعتمدته الدولة، ومن خلفه مرتكزات السياسة الخارجية التي عمل رئيسا الجمهورية والحكومة على تثبيتها خلال جولاتهما الخارجية. وأتى بيان أمين عام الحزب الإلهي نعيم قاسم بعد سويعات لتدعيم هذه الاستفزاز بقوله "لسنا على الحياد" التي كرّرها مرتين، متبوعة بـ "نتصرف بما نراه مناسباً في مواجهة العدوان الإسرائيلي الأميركي الغاشم".

لم يقم "الملاليون" وزنًا للإحراج الذي يمكن أن يصيب رأس الدولة إذا ما سأله أحد المسؤولين السعوديين عن هذا الفيديو، وعن سبب اختيار بيروت لتهديد المملكة، وإن كان ذلك بقصد الإيحاء بأنها لا تزال العاصمة العربية لمحور الممانعة. والأمر نفسه ينطبق على الرئيس نواف سلام، وهو الذي يدعم تخصيص جلسة حكومية لـ "مسألة السلاح" من أجل الخروج ببرنامج زمني واضح وآليات محددة، بما يحفظ هيبة الدولة. بينما يعتبر الرئيس جوزاف عون أن الحوار الثنائي أداة أكثر نجاعة تحقق الهدف المنشود، وتحفظ كبرياء "الحزب" الشديد الحرص عليه، وتجنب الدخول في سجالات وصدامات لا طائل منها.

هذه الاستراتيجية التي تسري على سلاح المخيمات أصيبت بـ "نكسة" مؤثّرة، بعدما فضلت الدولة الصمت على اتخاذ موقف صلب وصريح إزاء تجاهل الأطراف الفلسطينية إبلاغها تأجيل تطبيق البرنامج المتفق عليه، فظهرت وكأنها متلقٍ وليس شريكًا يحرص على الخصوصيات الداخلية الفلسطينية. وهذا التساهل كان له الدور الأبرز في تجرّؤ "الملاليّين" حدّ الوقاحة على بثّ هذا الفيديو، بمعزل عن تسريبه من عدمه. ليس تفصيلًا أن يكون ممثل "حماس" في لبنان، أحمد عبد الهادي، حاضرًا على المنصة أثناء عرض هذا الشريط، فيما الباقون مجرّد "عدد"، وهو الذي تبلغ التوصية الصادرة عن "المجلس الأعلى للدفاع" مصحوبة بتحذيرات تشمل النشاط العسكري والسياسي أيضًا، وتلويحٍ باستخدام أدوات الضغط.

وعليه، فإن الدولة مدعوة إلى تفعيل أدوات الضغط القصوى، وتوجيه رسالة حازمة إلى "الملاليين" ورهطهم، من خلال إلغاء إقامة عبد الهادي، حتى لو وصل الأمر إلى طرد السفير الإيراني، من أجل الحؤول دون أن تنزلق الأمور إلى نواحٍ أسوأ بكثير. فيما التراخي مع رسالة السفارة الإيرانية يمهد لعودة لبنان منصة للهجوم على دول الخليج وتصدير خطابات وهتافات تحريضية ضد قادتها، والأهم تشجيع "حزب الله" على المشاركة في الدفاع عن النظام الأم في محنته الوجودية سياسيًا وربما عسكريًا.