العمل من المنزل يزدهر في لبنان: النساء يبدعن

كشفت الأزمة اللبنانية أنماطًا مختلفة من "ازدهار" الأعمال غير المرئية، بعدما تحولت منازل الآلاف إلى أشبه بمشاغل صغيرة للصناعة والإنتاج، والانخراط تاليًا بالتجارة الالكترونية، التي ما زالت حديثة العهد في لبنان.  

ومقابل ارتفاع معدلات البطالة والفقر الذي يطال نحو 85% من السكان، ما زال حجم "السوق المنزلي" ضبابيًا، لأنه خارج الأطر التقليدية للأعمال القديمة والحديثة.  

عاملات من المنازل  
لكن، وفي رصد سريع وعيني، تبدو أكثر الظواهر نموًا في لبنان، هو إقبال السيدات على العمل من منازلهن. واللافت أن فئة واسعة منهن لا تحملن شهادات جامعية، وكنَّ قبل انفجار أزمة 2019 مصنفات ربات المنازل، اللواتي بطبيعة الحال يكرسن حياتهن لأبنائهن وأزواجهن وآبائهن، في خدمات وأعمال كثيرة غير مدفوعة الأجر.  

أما ومع ضيق الأفق وشح الموارد وتآكل المداخيل، أصبح كل ما يعرفه اللبناني ويتقنه، من مواهب وحرف، قابلًا للاستثمار، وإن على نطاق ضيق.  

مثلًا، لم يعد يقتصر عمل هؤلاء السيدات على تحضير الطعام وبيعه من منازلهن، بل طورن أعمالهن في صناعة المونة والانخراط بمختلف أشكال الحرف اليدوية من صابون وكروشيه وحلي وألبسة وحفر ورسم وأكسسوارات يدوية..  

لكن، تجاوزت معظم هذه السيدات مرحلة الترويج لإنتاجهن بالطرق التقليدية، إذ كسرت شريحة واسعة منهن دائرة الزبائن الضيقة من المعارف وأبناء الحيّ، ولجأن لتسويق انتاجهن على منصات التواصل الاجتماعي، وأفردن لها صفحات خاصة على انستغرام مثلًا، أو استعن بأحد له خبرة في هذا المجال، ما يعزز انتشارهن في بقع جغرافية أوسع.  

يقول أحد مطوري منصات التواصل الاجتماعي في لبنان، أن سوقهم يلحظ إقبالًا كثيفًا من أفراد عاديين أو مبتدئين بقطاع التسويق الفردي لأعمالهم، يطلبون المشورة والتثقيف حول آليات الترويج إلكترونيًا، ويلجؤون لدفع مبالغ ولو صغيرة جدًا لترويج صفحات انتاجهم.  

قصة نوف  
وتعد السيدة نوف توما واحدة من هذه السيدات، حيث استغلت موهبتها وبراعتها في صناعة الكروشيه منذ أكثر من 15 عامًا، واستطاعت من مشغلها المنزلي قبل أربع سنوات أن تحول ذلك لاستثمار صغير، وتتعاون معها نحو سبع سيدات، بينهن أرامل ولاجئة سورية وأخرى مصابة بالسرطان. وكنتيجة لتميز عملها وفرادته، في صناعة الحقائب والشالات ومناشف العمادة والديكورات المنزلية، أصبحت توزع منتوجاتها إلى متاجر في بيروت وزحلة بناء على توصيات أصحابها.  

وأثناء مشاركتها في معرض مع سيدات أخريات وأصحاب حرف يدوية بمناسبة عيد الأمهات في مدرسة الليسيه الفرنسية شمالًا، تقول نوف لـ"المدن"، إنها فكرت مليًا في كيفية استثمار موهبتها، وتحويلها إلى مصدر للدخل من دون أن يتطلب ذلك رأس مال كبير، أو تكاليف تشغيل أو استئجار محل.  

وعلى مشارف الانهيار الاقتصادي في لبنان، بدأت تتواصل مع سيدات في الشمال، يتقن تنفيذ أعمال الكروشيه، وهن ربات منازل. وكانت أولويتها مساندة نساء يحتجن للعمل وتأثرن مع أسرهن بالضائقة الاقتصادية. وتسعى هذه السيدة إلى زيادة انتشارها وتعزيز عملها مع السيدات اللواتي ينفذن تصاميم الكروشيه، وذلك عبر التسويق الإلكتروني. وتعلق بالقول: "إن لهذا المجال تحديات من نوع آخر، في ظل صعوبة المناسفة الكترونيًا التي تحتاج للمال أيضًا، لكن الخسائر تبقى محدودة، وما أحاول الحفاظ عليه هو البيع بأسعار مقبولة لمنتوجات متميزة، لمراكمة الزبائن وجذبهم".  

تعد نوف واحدة فقط من نماذج ازدهار التجارة الإلكترونية-المنزلية في لبنان. كما جذبت إليها آلاف الشباب والشابات من خريجي الجامعات، الذين فقدوا أملهم بالوظائف التقليدية، وكأن لبنان، وإن كان متأخرًا، يحبو نحو هذا القطاع المزدهر عالميًا.  

أنماط جديدة
في المقابل، نمت أعمال أخرى كادت أن تندثر بفعل مرور الزمن، لكنها تزدهر مجددًا بعدما فرضت الأزمة على معظم اللبنانيين خيارات جديدة، دفعتهم لإعادة النظر بنمط استهلاكهم. لذا، نجد أن حرفة الخياطة عادت لتنشط مجددًا على أيادي مئات السيدات وكذلك الرجال. الحاجّة منى في طرابلس واحدة من هؤلاء، حيث أعادت تشغيل ماكينة الخياطة في منزلها، ويقصدها العشرات بداعي تصليح ملابسهم. تقول لـ"المدن": "لقد أصبحت الناس لا تستغني عن شيء من أغراضها وملابسها لأنها باهظة الثمن اليوم. يأتي إليّ من يريد تصليح حتى ملابسه الداخلية". وتفيد أنها تستفيد هذا الواقع لتوفير مصدر دخل لأسرتها، وإن لم يكن ثابتًا ويتبدل صعودًا وهبوطًا.  

وتنمو الكثير من الأعمال التقليدية في لبنان، فيما يشهد العالم عمومًا تحولات هائلة في الاستثمار والوظائف، لترسم ملامح مستقبل جديد. إذ بدأ يتجلى منذ تفشي فيروس كورونا وما تبعه من سياسات الحجر المنزي التي فرضت نقل الكثير من المكاتب والأعمال إلى المنازل.  

وما يظهر جليًا، أن الواقع اللبناني، فرض أنماطًا جديدًا من المهن والحرف والأعمال، ووجد كثيرون وكثيرات ملاذًا فيه، رغم افتقارهم للموارد والدعم، ماليًا وتسويقيًا. ناهيك عن تحديات أخرى كبناء قاعدة من الزبائن وتوطيد علاقة الثقة بين صاحب المنتج والمستهلك، التي غالبًا ما تكون علاقتهما إلكتروني، عبر وسيط وحيد هو الديليفري لإيصال المنتج، إضافة إلى أن القوانين اللبنانية لا ترعى تنظيم هذا النوع من الأعمال لحماية كامل أطرافه.