"المهن البسيطة" في مهب الحرب...أفواج من العاطلين عن العمل

تتوالى الأزمات على اللبنانيين في ظل استمرار الحرب في جنوب لبنان، فمن المآسي الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى الدمار والنزوح، ثمة مأساة أخرى تطال عدداً كبيراً من أصحاب المهن اليدوية والحرفية، أو المهن الحرة والتقليدية التي تعتبر جزءاً من اقتصاد هذه القرى. فأصحاب تلك المهن فقدوا بغالبيتهم القدرة على الإستمرار والعمل وباتوا بحكم العاطلين عن العمل.

يعيش الكثير من أبناء مناطق جنوب لبنان  على حِرَف بسيطة، مثل الزراعة، صناعة الأغذية الأساسية كالخبز والمعجنات، بيع المؤونة القروية، بالإضافة إلى التجارة بمفهومها الضيق، والتي تتعلق ببيع السكاكر والسلع الأساسية.

هذه الفئة من العمال، باتت اليوم في عداد العاطلين عن العمل، وزادت معاناتها مع موجات النزوح، التي بلغت ما يقارب 100 ألف نازح جنوبي. يسعى البعض إلى تدبير شؤونه من خلال بيع بعض المجوهرات المُدّخرة، أو المقتنيات الثمينة، لتأمين إيجار مسكن، والحصول على مواد غذائية، فيما البعض الأخر ينتظر مساعدات مؤسسات الرعاية الاجتماعية. وبالمحصلة، فإن أزمة إنسانية واقتصادية، تعصف بفئة جديدة من اللبنانيين.

الفقر بأوجه مختلفة
منذ 6 أشهر نزح هاشم الغول مع عائلته من بلدة عيتا الشعب الحدودية، إلى مدينة صور مع اشتداد القصف الإسرائيلي. لم يكن باعتقاده أن فترة النزوح ستطول، وأنه سيصبح عاجزاً تماماً عن تسديد النفقات اليومية لعائلته. يقول الغول لـ"المدن": أضطرت إلى ترك المنزل، بعدما أصابت غارة منزل شقيقي في الطابق العلوي.

يعمل الغول في مجال الزراعة، ولديه جرار يتنقل به بين قرى الجنوب لزراعة وحراثة الأراضي الزراعية، وكان يجني مبالغ جيدة نسبياً، لإعالة العائلة. اليوم، لا يملك ثمن الخبز لعائلته، ويعيش على مساعدات تقدمها بعض مؤسسات الرعاية، والتي تتضمن تأمين وجبات غذائية يومية.
بحسب الغول، تحتاج عائلته مصاريف يومية، لا تتعلق بالإنفاق على الطعام والشراب وحسب، بل هناك مصاريف للأدوية، والمستلزمات الصحية، وغيرها. يسعى من خلال الاستدانة من بعض الأصدقاء إلى تأمين بعض هذه المستلزمات.

المشكلة بالنسبة للغول، لا تتعلق بالوضع الراهن فقط، بقدر ما هو شعور بالإحباط من طول أمد الحرب، وانعكاساتها على القطاع الزراعي في جنوب لبنان، إذ يخشى أن لا يتمكن من العودة إلى مهنته، حتى بعد انتهاء الحرب، بسبب الحرائق والأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي.

وبحسب وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عباس الحاج حسن، فإن ما يقارب 2400 دونماً من الأراضي الزراعية، احترقت بشكل كامل، و6500 دونماً احترقت بشكل جزئي، ناهيك عن المواد المشعة التي استخدمتها إسرائيل مثل الفوسفور وغيرها، والتي لها تأثيرات طويلة الأمد على التربة والمزروعات.

أعمال مهدّدة
الغول ليس حالة فريدة، فقصص الجنوبيين وتجاربهم مع الحرب كثيرة. وقد أصيب حسين أيوب من منطقة يارون الحدودية، بشطايا ضربة استهدفت قريته، وهو ينتظر إجراء عملية جراحية ثالثة في ساقه. يقول لـ"المدن": "منذ أشهر، انقطعت عن العمل، واستخدمت جميع المدخرات لتأمين مسكن آمن للعائلة. اليوم أصبحت شبه عاجز عن تأمين النفقات الأساسية بسبب الإصابة". وكان أيوب يعمل كسائق على حافلة خاصة يتنقل بين القرى الجنوبية، وبحسب تعبيره، كانت الأمور جيدة بالنسبة له وللعائلة، لكن بعد الإصابة، تبدل الوضع، وباتت العائلة تعيش في فقر شديد".

لا توجد إحصاءات رسمية تشير إلى حجم البطالة بين سكان مناطق جنوب لبنان، إلا أن تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية بعنوان "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية - اتجاهات 2024"، لفت حينها إلى  ارتفاع معدلات البطالة، خاصة في المناطق النائية أو البعيدة عن العاصمة. ووصف البطالة المسجّلة في لبنان على أنها بطالة طويلة الأمد، أي أنها مرتبطة بانكماش مذهل في الناتج المحلي الإجمالي وتقليص القطاعات وإقفال شركات ومؤسسات يصعب أن تفتح أبوابها مجدداً. ووفق التقرير، فإن 48.9 في المئة من العاطلين من العمل في لبنان يندرجون تحت خانة "البطالة الطويلة الأمد".

البطالة بين النساء
للنساء أيضاً حصتهن من هذه المعاناة، فأم علي، تعمل في مجال صناعة المؤونة المنزلية، لكن المنتجات الزراعية والحيوانية الخاصة بالمؤن انخفضت بشكل كبير لديها، ولم تتمكن هذا العام من صناعة أي منتج وبيعه. تعيل أم علي، عائلة مكونة من 5 أفراد، وورثت هذه المهنة عن أهلها، لكن الأوضاع في جنوب لبنان، لم تساعدها في الحصول على المواد الأساسية وتصنيعها وبيعها.

نزحت أم علي من منطقة الخيام مع عائلتها، وهي تسكن اليوم في أحد مراكز الإيواء. تقول لـ"المدن": دأبت على بيع السلع الأساسية من مربيات، إلى الزعتر، الكشك، وغيرها من المواد التي تستخدمها العائلات اللبنانية، لكن منذ أشهر، اضطررت لترك المنزل، وفقدت القدرة على العمل. تشكو أم علي، الوضع الحالي، بحسب تعبيرها، لا يوجد أي مصدر للدخل لأسرتها، وبالتالي فإن انتظار المساعدات أمر مرهق ومتعب، وهناك خوف من استمرار الوضع الحالي.

وكحال أم علي، فإن فاطمة السيد، من منطقة علما الشعب، اضطرت للنزوح وترك منزلها ودكانها وسط القرية. تقول لـ"المدن": نزحت وعائلتي مع العديد من المواطنين، خصوصاً وأن الكثير من الأحياء في قريتها سويت بالأرض، ولم يعد هناك أي مؤهلات للحياة.
تركت السيد القرية منذ أربعة أشهر، ولم يعد لها أي مصدر للدخل، تعيش وعائلتها عند أقارب، لكنها عاجزة تماماً عن المساعدة في تأمين النفقات الأساسية.

تقول السيد "لم أكن أريد ترك القرية، لكن حركة البيع انعدمت بشكل تام، رغم وجود عدد قليل من العائلات الذين رفضوا ترك منازلهم"، لكن البقاء بحسب تعبيرها لم يعد مجدياً، ولم تعد قادرة على تأمين بضائع جديدة، أو حتى تصريف البضائع الموجودة، ناهيك عن غياب التيار الكهربائي ومادة المازوت لتشغيل البرادات في الدكان، الأمر زاد من معاناتها إذ خسرت جزءاً من البضائع المثلحة.

تعتبر مناطق جنوب لبنان، من المناطق التي تمكنت من مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية عام 2019، من خلال توجه عدد من المواطنين، إلى هذه القرى، وتأسيس مشاريع متوسطة وصغيرة، لكن الوضع اليوم يبدو سوداوياً في ظل الحرب الإسرائيلية والغارات المتكررة، والخوف من الدخول في حرب أكثر شراسة.