انهيار وتحلّل في العمل البلدي.. بلدية بيروت نموذج لهاجس ضرب التوازن الطائفي؟

مع إعلان وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي قبل أيام عن جهوزية وزارته لإجراء الانتخابات البلدية في شهر أيار المقبل، ودعوة الهيئات الناخبة في حد أقصى هو ١٢ نيسان المقبل، بعد إنجاز تنقيح لوائح الناخبين وتصحيحها في ٣١ من الشهر الجاري، بدأ هذا الاستحقاق يلقي بثقله في ظل السباق الجاري بين جدية الدعوة وعدمها، خصوصاً بعدما ربط مولوي الاستحقاق بقرار المجلس النيابي الملزم باتخاذ الإجراء القانوني بالتمديد للمجالس الحالية، إذا تعذر إجراء الانتخابات.

في الجانب اللوجستي، حرصت الداخلية على القيام بكل ما هو واجب عليها ولا سيما لجهة رصد التمويل لتغطية أكلاف العملية في موازنة ٢٠٢٤. ولكن الواضح أن المسألة لا تتصل بالتمويل أو الجهوزية، بل بالقرار السياسي، ومصلحة القوى السياسية في خوض هذا الاستحقاق الذي تنتهي ولايته الممددة للمرة الثانية في نهاية أيار المقبل، علماً بأن التمديد الذي أقرّه المجلس النيابي في نيسان ٢٠٢٣، جاء تحت طابع التمديد التقني لمدة سنة كحد أقصى تنتهي في ٣١ أيار ٢٠٢٤.

لا مؤشرات جدية حتى الآن على إمكان حصول الانتخابات، خصوصاً بعدما رُبطت بالتطورات الأمنية جنوباً والمخاطر التي تتهدد البلاد في ظل التهديدات الإسرائيلية المتنامية، وهي الذريعة التي ستبرّر للمجلس النيابي قرار التأجيل. تبقى الصيغة التي ستُعتمد والجهة النيابية التي ستتكفل بتقديم اقتراح القانون الرامي إلى التأجيل، والتي ستقوم على صيغة تعذر إجراء انتخابات للمجالس البلدية والاختيارية تُستثنى منها محافظة الجنوب. ولا تستبعد مصادر نيابية مطلعة أن يتم ذلك في غضون الأسبوعين المقبلين.

وبقطع النظر عن السبب الرئيسي الذي سيدفع إلى التأجيل، فإن هذا الملف يشكل أحد مؤشرات الانهيار والتحلل في العمل البلدي، تماماً مثلما هي حال التحلل في مؤسسات الدولة، ولا يمكن فصله عن المشهد السياسي المتصل بالمخاوف على النظام السياسي في البلد.

وتشكل بلدية بيروت المؤشر الأقوى لهذه المخاوف، في ظل عودة الكلام عن مشروع تقسيم البلدية، نتيجة المخاوف من أن تخرج نتائج أي انتخابات محتملة بتغيير ميزان التوزيع الطائفي داخل مجلس البلدية القائم عرفاً على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، تماماً هو التوزيع المذهبي داخل المجلس، نظراً إلى أن لوائح الناخبين تميل الدفة نحو أكثرية مسلمة.

يواكب الاستحقاق البلدي في بيروت الهواجس التي يعبّر عنها الوسط المسيحي من عمليات إقصاء للمسيحيين عن المراكز والمواقع في الدولة، كما يرافق الدعوات المتكررة إلى الفيديرالية أو على الأقل اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة.

ورغم أن الخشية من تغيّر الميزان الطائفي لا تقتصر فقط على بلدية بيروت، وقد يطال عدداً من مجالس البلديات في المناطق، يكتسب هذا الأمر أهمية رمزية نظراً إلى أنه يتصل بالعاصمة، وبتطبيق عرف يتجاوز القانون الذي لم يلحظ أي توزيع طائفي على مستوى المجالس.

أعطى الرئيس الأسبق للحكومة الشهيد رفيق الحريري الضمانة بأن يتوقف العدّ وأن تُعتمد المناصفة في مجلس البلدية. واستمر هذا العرف مع نجله سعد إلى أن قرّر الأخير تعليق عمله السياسي ومغادرة البلاد. شرعت حالة الفراغ التي خلفها الحريري الأبواب أمام الانقسامات على صعيد الطائفة السنية فبرزت تكتلات عدة تنذر بمنافسة شديدة قد يخوضها الصوت السني، إن لم يتوافر الغطاء السياسي للحريري الذي لا يزال، رغم غيابه عن الساحة السياسية، قادراً على الإمساك بخيوط المعركة الانتخابية.

مثل هذا المشهد يريح الوسط المسيحي لأن من شأنه أن يعطل نتائج المثالثة التي قد تنتهي إليها الانتخابات لأن تقاطع القوى المسيحية على تحسين وتحصين مواقعها في المجلس البلدي لبيروت سيوفر لها دفعاً وضغطاً يقيها خطر الخسارة، إذا بقي التشرذم سارياً على المقلب الآخر.

ولعل هذه المشهدية معطوفة على حذر الكتل النيابية والقوى السياسية واستشعارها خطر تراجع شعبيتها نتيجة تراجع قدراتها الخدماتية في البلدات والقرى المختلفة، شكلت عاملاً محفزاً ودافعاً قوياً نحو تأجيل الانتخابات، ولا سيما أن ذريعة الجنوب جاهزة وكافية. حتى إن فكرة التأجيل كانت واردة أساساً حتى قبل التطورات الأمنية الأخيرة. فالحكومة لم تلحظ تمويل الانتخابات في قانون موازنة ٢٠٢٤ رغم أن سبب التمديد التقني العام الماضي ارتكز على عدم وجود الأموال الكافية. وقد أدرج التمويل في المناقشات النيابية بدفع من تكتل "الجمهورية القوية".

بحسب مصادر وزارية، فإن السيناريو الأقرب إلى التحقق يكمن في اقتراح قانون التأجيل بالتوازي مع قيام وزارة الداخلية بكل الخطوات اللوجستية التي تشير إلى أن الانتخابات حاصلة في أيار المقبل. أما السيناريو الأسوأ فيتمثل بالعجز عن إقرار قانون التأجيل، بحيث تنتهي ولاية المجالس البلدية والاختيارية وتتحول إلى تصريف الأعمال، بعد خضوعها لسلطة المحافظين والقائمقين، كما هي الحال عملياً اليوم في بلدية بيروت بسبب النقص في عديد أعضاء المجلس البلدي إما بسبب الاستقالة أو بسبب عدم الحضور.

إنه السيناريو الأسوأ ولكنه ليس مستبعداً إذا استمرت عملية التدمير الممنهج لكل المؤسسات في البلد!