المصدر: المدن
الجمعة 13 آذار 2020 06:26:28
الطريق سالكة على غير العادة. السيارات قليلة. الناس فيها يقودون على عجل. الوجوه عابسة، حانقة، خائفة. طريق المطار التي غالباً ما تكون مكدسة بكل أنواع الآليات والناس، غيرت عادتها. حركة أقل من طبيعية، أقل بكثير من الأيام العادية. الناس مقسومة هناك إلى قسمين أو أكثر، منهم من يمارس حياته بشكل طبيعي، يجلس إلى جانب قهوة "الاكسبرس" يتبادل أطراف الحديث مع الجميع، ويعانق كُل من يعرفه من المارة. منهم، من يتحصن بالكمامات والقفازات والنظارات، ويبدو عليه الهلع بشكل مغاير تماماً لما يقوله وزير صحتنا، الحريص على نفسية المواطنين أكثر من حرصه على صحتهم. منهم، ما بين بين، لا يعرف هل يهلع أو هل يمارس حياته بشكل طبيعي، أو يوازي بين الحالتين، لكن أين يذهب بالخوف والقلق؟
من طريق المطار إلى الطيونة، الحال نفسها. هناك، رجل أربعيني كان يجر عربة عليها الذرة والفول. وسيلته قبل الكورونا لكسب لقمة العيش هي نفسها اليوم مع تفشي الوباء، مع فارق واحد وجذري، ليس هناك من يشتري، ومن يشتري هو انتحاري بطبيعة الحال. وهو، أي البائع، يبحث عن انتحاريين كي يستطيع أن يعود بالقليل من المال، قوته وعائلته، في بلاد تغرّب فيها أبناؤها، غُربة تكبر. وأكثرية تشعر يوماً بعد يوم، أن العودة إلى حياتهم الطبيعية صار ضرباً من الخيال.
أماكن العبادة
بدارو التي كانت ملجأ الناس بعد يوم عمل طويل، أو خلاله، لتناول كأس أو وجبة خفيفة، شبه مقفلة تماماً، عدا بعض محال السمانة وما يُعرف بـ"السناك" والتي أيضاً تتجهز لأن تُقفل تماماً، بالرغم من أنها تعتمد على خدمة التوصيل فقط. الخطر يكبر، كُثر يشعرون به. لكن أيضاً، كُثر يتعاملون معه برعونة آتية من لا اكتراث بحياتهم وحياة الناس من حولهم. أمام جامع حمزة بن عبد المطلب في منطقة الكولا، وقت الظهيرة، دخل المصلون بالعشرات ليمارسوا إيمانهم، وهُم، كما كُثر، يعتقدون أن بيوت الله محصنة أمام كل أنواع الفيروسات، كما يعتقد البعض أن تراب القديسين والأماكن المقدسة ستحمي لبنان من تداعيات المرض، فيما المُثبت حقيقة وعلمياً، أن كل هذا لا يعدو كونه نوع من "الهرطقة" التي تتحول اليوم لتكون سبباً لموت كثيرين، بالرغم من أن كثيرين يعتقدون بها وهذا حقهم، إلا أن اليوم، ما هو مطلوب هو الوعي، بعيداً عن كل العادات السائدة. وبالحديث عن هذه العادات، تبدو اليوم كأنها وسيلة العهد القوي وتابعيه لمخاطبة الناس العاجزة، ولتبرير عجز هذا العهد في كل ما يمس حياة الناس، حاضرهم ومُستقبلهم.
مار مخايل.. و"بربر"
المحال في كورنيش المزرعة بمعظمها فتحت أبوابها. لكن الناس لم تحضر كما كانت العادة. كذلك الأمر في الأشرفية ومار مخايل التي تحولت إلى شارع لا يمت إلى ما كان عليه بصلة. شارع يكتظ بمطاعم ومقاهٍ مُقفلة لن تنتظر روادها إلى أجل غير معروف حتى اللحظة. مجموعة من الُشبان يجلسون على درج الجميزة ويحتسون الجعة. يتبادلون الحديث ويضحكون بشكل يوحي أن كُل ما حولهم طبيعي، وأن البلاد لا تعيش حالة من الخوف ومصير مجهول مفتوح على كل الاحتمالات. يُمارسون حياتهم غير عابئين لا بأنفسهم ولا بمن سيحتكون به، صديق، عائلة، زميل عمل، انسان عادي لا يعرفونه، أي شيء.
مطاعم بربر، في محلة سبيرز، أقفلت أبوابها، وهي مشاهدة لم يعتدها اللبنانيون مُنذ سنوات. يقول صديق على مواقع التواصل في وصف دقيق ومُعبر إن هذا المشهد "لم يحصل إلا يوم 7 أيار" حين اجتاحت الميليشيات بيروت. فعل التسكير اليوم، يأتي في مواجهة ميليشيات أقوى بكثير، لا يُمكن لأي كان الاختباء منها إذا ما حجر على نفسه تماماً. في المقابل، بدا فرع الحمرا وكأنه جزيرة معزولة عن كل ما حوله، والناس أمامه يقفون ليطلبوا الطعام ويتحدثون ويضحكون.
من الحمرا إلى الكورنيش
قهوة صغيرة في الظريف كانت فاتحة أبوابها قبل يومين، فيها ما لا يقل عن 30 شخصاً. جميعهم يُدخنون النرجيلة. المنظر في الداخل مُرعب، السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل هؤلاء فعلاً على علم بما يجري على الكوكب. اثنان أمام ستاربكس حمرا، المقفلة اليوم، يقولان إن "الناس عميزيدوها، كلو رشح"، هكذا قرأ أحدهم عن الفيروس، أين قرأ هذه الحقيقة، لا أحد يعلم. شارع الحمرا وكأنه في لحظة استعداد لإقفال تام، والناس مترقبة. الناس، مهربها الوحيد الكورنيش، "لم يعد لدينا سوى أن نقوم بممارسة رياضة المشي أو الركض كي نستطيع أن نخرج من بيتنا"، تقول فتاة في رحلة عودتها من الكورنيش إلى بيتها في الحمرا. على الكورنيش أيضاً، غابت مشاهد النرجيلة إلا فيما ندر. صيادو السمك يحاولون كسب لقمة عيشهم كما اعتادوا، أحدهم يضع الكمامات وينتظر ما سيأتيه من البحر، غير المرض المنتشر في الهواء.
بيروت اليوم، أمس وغداً، قريبة من واقعها الكئيب الذي لم ينكسر إلا أيام 17 تشرين. بيروت، تموت ببطء. ناسها، ينتظرون الموت أيضاً كُل على طريقته. كُثر منهم ينتظرونه بسذاجة. العاصمة، تتهيأ لما هو أسوأ وإن كابرت وكابر ناسها الذين يعتقدون أنهم "يحبون الحياة" ويواجهون الموت بثقة، وبانعدام الخوف الذي هو في مكان ما، فعل أكثر من أبله، فعل مريض، لأناس بعضهم فقد الرغبة بكل شيء.