المصدر: المدن
الكاتب: دنيز عطالله
الأربعاء 28 آب 2024 12:23:10
لا شيء يوحي في"بلاد جبيل" أن حرباً وغارات واغتيالات ومسيّرات تنشط على المقلب الآخر من جبلها. فمن المدينة، عاصمة القضاء، إلى آخر قرى الجرد تسير الحياة على إيقاعها المعهود. صخب جبيل وبحرها وليلها، يقابله هدوء بلداتها واستمتاعها بكسل الصيف و"بساطه الواسع"، على ما يقول المثل اللبناني.
ومع ذلك، يبقى "الإيحاء" قاصراً عن عكس الواقع ودقته، لاسيما في السياسة وظلالها الوافرة على "الجيرة" والعلاقات الاجتماعية، في قضاء طالما تغنى أبناؤه بعفوية عيشهم معاً وصدقه. فالتجول في القرى والإصغاء لناسها، وما يرشح من بين كلامهم "الاجتماعي" المنمق من "حذر" من الآخر والاختلاف معه، يُظهر أن بساط الصيف لم يعد بالسعة نفسها المتخيّلة، على عكس المسافات التي تتسع بين الناس على خلفيات سياسية وطائفية، من أواخرها الحرب الدائرة جنوباً.
وكما جالت "المدن" في كسروان مستطلعة أحوال وعلاقات القرى الشيعية مع محيطها وما يشاع عن حضور عسكري وأمني للحزب، ومدى الاستعداد لاستقبال النازحين، في حال توسّع الحرب، كذلك فعلت في قرى قضاء جبيل.
نصرالله في أفقا وقاسم في لاسا
الحضور الشيعي في بلاد جبيل أكثر انتشاراً من كسروان؛ ويبلغ نحو ثلث عدد السكان (26.8 بالمئة) بحسب لوائح الشطب للانتخابات الأخيرة.
يتوزع هؤلاء على عدد من قرى القضاء، الأمر الذي يجعل رئيس لقاء سيدة الجبل النائب السابق فارس سعيد يجزم لـ"المدن" أن "حزب الله حرص منذ سنوات أن يربط بين حدث بعلبك وصولا إلى ساحل عمشيت من خلال قرى شيعية وقد شقّ الطرقات لهذه الغاية". يعدّد سعيد البلدات "بدءاً من حدث بعلبك مروراً بالجرد باتجاه أفقا، عين الغويبة، لاسا، قرقريا، فرات، علمات، طورزيا، حجولا، راس أسطا، بشتليدا، كفرسالا وصولاً إلى عمشيت". يضيف "لهذا السبب قصفت اسرائيل الجسور في كسروان وجبيل عام 2006، وهو سيناريو يمكن أن يتكرر".
سعيد الذي يردد أمام زواره أحياناً أن "لا شيء يمنع أن يكون السيد حسن نصرالله مختبئاً في أفقا والشيخ نعيم قاسم في لاسا"، يفعل ذلك كما يقول لـ"المدن" لـ"قراءة ردود فعلهم حيث يحل الرعب عليهم. فالناس لا تريد الحرب وتعرف أنه حيث يحل حزب الله تحل معه الحروب".
السيناريو المخيف عند البعض هو المشتهى عند آخرين. فبسؤال شاب من لاسا عن إمكانية وجود السيد في ديارهم يشهق قائلاً "يا ليت"، ساخراً من المخاوف والخطر والتهديدات.
لاسا... الحزب والحركة
حماسة الشاب ليست استثناءً في لاسا. فهذه البلدة الشهيرة بنزاعها العقاري مع الكنيسة المارونية، لا تخفي ميولها وانتماءها السياسي. ترحب بزوارها بصور لعشرات الشهداء مغروزة على مستديرة في أول البلدة. بعدها بقليل صورة لأمين عام حزب الله كتب عليها "سماحة العشق". وعلى امتداد الطريق صور وأعلام حزب الله. لا يتحمس أهل لاسا للكلام كثيراً. يرتابون أكثر بوجود الكاميرا. يكادون يستهجنون السؤال عن استضافة النازحين من الجنوب وتكتفي سيدة بالجواب "كلنا أهل".
أعلام حزب الله وصور شهدائه حاضرة في كل القرى الشيعية بنسب مختلفة. أما صور "حركة أمل" ورئيسها نبيه برّي فتتصدر مدخل "علمات- الصوانة"، وفي أحد شوارع "الحصون" حيث نسأل سيدة من البلدة أي علم ترفع أمام دارتها فتضحك "أنا مسيحية. نحن ضيعة مختلطة". وتهمس كمن تكشف سراً "الأغلبية في البلدات الشيعية مع الحزب وحوالى الربع مع حركة أمل".
نسألها إن كانت على استعداد لاستقبال نازحين في حال حصول حرب فتجيب "ونحنا شو خصنا بالحرب؟ الله يساعد الناس أينما كانوا. ولكن نحن بالكاد نعيش..."، ثم تستدرك "نستقبل معارفنا وبيت الضيق يتسع لألف صديق".
يؤكد نائب جبيل سيمون أبي رميا، رداً على سؤال أن "الجو المسيحي العام في قضاء جبيل هو ضد الحرب ولديه الكثير من الانتقادات، على عكس الحال في البيئة الجبيلية الشيعية، لكن ذلك لا يمنع وجود التضامن الاجتماعي والإنساني. وفي حال تطورت الأمور، أظن أن معظم الناس سيستقبلون النازحين من أصدقاء ومعارف".
لا يحب أبي رميا التمييز بين البلدات الشيعية والمسيحية "فهي ليست جزراً منعزلة. والنسيج المجتمعي الجبيلي متداخل، وإن كان الولاء السياسي يسبب بعض النفور أو الحساسيات بين الناس".
وبسؤاله عما يشاع عن أنفاق أو أسلحة في البلدات الشيعية الجبيلية، يقول "لست مطلعاً على أي حيثيات عسكرية، ولكنني لم أسمع أي شاهد عيان يقول أنه رأى شيئاً في هذا السياق. في المرة التي أثيرت فيها قصة الأنفاق في منطقة جنّة تبين أنها تعود للأعمال المتعلقة بالسدّ هناك".
هويات حزبية وطائفية
تُشهر معظم البلدات الشيعية في قضاء جبيل هويتها الحزبية، بنسب أعلى من جاراتها المسيحية، التي لا تغيب عنها أيضاً المظاهر الحزبية والدينية. على الطرقات العامة أعلام للقوات اللبنانية ومزارات قديسين، وأعلام للتيار الوطني الحر بنسبة أقل.
ينظر أبناء القرى المسيحية إلى المبالغة باستعراض الهوية السياسية والطائفية لمعظم البلدات الشيعية في جبيل، بحسب خلفياتهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية. فالمنتقدون يرون فيها "ترجمة لفائض القوة المستندة إلى السلاح"، فيما يبرر المتعاطفون أنها "نوع من الحصانة للبيئة نفسها وتعزيز للهوية الجماعية تقوم به كل الطوائف في لبنان".
لا يوافق النائب السابق الدكتور محمود عواد على صبغ قرى بلاد جبيل الشيعية بطابع حزبي. يصر على "تنوع البيئة الشيعية تاريخاً وحاضراً"، ويقول لـ"المدن" أن "الناس متعبة ولا تريد الحرب. نحن أفقر من أن نعيد تركيب الزجاج إذا انكسر، فكيف نخوض حرباً دون سائر الدول؟... وقفت علينا نحرر القدس والأقصى!". يضيف عواد "حتى من يناصرون حزب الله في المنطقة يهمسون بالانتقادات وإن لم يجاهروا بها. لكن هذا شيء والتعاطف مع أهلنا في الجنوب شأن آخر. ففي هذه الظروف لا يمكن إلّا أن يشرّع أبناء المنطقة بيوتهم للنازحين. الخلاف مع حزب الله وسياساته أمر يختلف عن التعاطف مع من يتحملون بالمباشر تبعات هذه السياسات".
ومن علمات أيضاً يؤكد نائب رئيس التيار الوطني الحر ربيع عواد، على وجوب الاهتمام راهناً في كيفية "الصمود في زمن الحرب الاقتصادية والنفسية والحرب الفعلية، والوقوف إلى جانب الناس التي تطالها تداعياتها بالمباشر". يضيف، "تربطنا بحزب الله وثيقة تفاهم تتمحور حول كيفية حماية لبنان وتحصينه، وليس حول وحدة الساحات".
يؤكد عواد أن "الأجواء عموماً في قرى جبيل وبلداتها جيدة. لا نزاعات إلا ربما نزاعات عقارية تأخذ طابعاً طائفياً نتيجة فائض الثقة أو فائض القوة. لكن التعايش في المنطقة عموماً ليس مستجداً".
عواد، كما ابن بلدته الدكتور محمود، يؤكدان وجود عدد من النازحين في المنطقة، وينفيان وجود أي مخازن أسلحة أو أنفاق، "أقله في علمات". ويضيف ربيع "لا أعلم إن كان من بين أهل المنطقة مجاهدون، لكنني أظنهم على الجبهات. فليس في جبيل وحدات قتالية وتنظيمية. أعرف ذلك من الاحتفالات واللقاءات الكبرى، حين يستقدمون إليها أناساً من خارج المنطقة إظهاراً للحجم".
تسهل قراءة السلوكيات المعقدة لأبناء قرى "بلاد جبيل"، الشيعة منهم والمسيحيون، على ضوء السياقات التاريخية ومشاعر الغلبة والقوة والاستقواء، معطوفاً على مشاعر الأقليات والأكثريات والنظرة إلى الذات الفردية والجماعية. ويمكن الاستشهاد بدراسات مطولة في علم النفس والاجتماع، لكن ذلك لن يلغي واقعاً "غير صحي" من الأفكار المسبقة والأحكام، مطموراً تحت كمّ من اللياقات الاجتماعية تخفي شعوراً مضمراً بالتهديد "الهيولي" تعيشه كل جماعة.