ظروف وقف النار لم تنضج بعد

ما أن غادر الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين تل أبيب عائداً إلى بلاده من دون الإعلان عن موافقة إسرائيل على التسوية وبالتالي وقف إطلاق النار، حتى بدأ تبادل الرسائل العنيفة بين إسرائيل و»حزب الله»، ما أوحى بأنّ ولادة التسوية لا تزال في حاجة إلى مزيد من الوقت لإنضاج ظروفها.

ظروف التسوية في لبنان لم تنضج بعد ولو أنّها لن تتأخّر كثيراً ربطاً بالصفقة الدولية الكبرى ولم تكن الغارة الإسرائيلية الدموية على قلب بيروت هي رسالة الإعتراض الإسرائيلية الوحيدة، ولا أيضاً سعي القوات الإسرائيلية لتحقيق تقدّم ميداني على الجبهات الجنوبية المشتعلة، لكن أيضاً تلك الرسالة الفجّة من خلال الاستمرار في استهداف مراكز الجيش اللبناني، وهو ما دفع بالرئيس نجيب ميقاتي إلى اعتبار ذلك بمثابة «رسالة إسرائيلية برفض مساعي وقف إطلاق النار». فالجيش اللبناني يشكّل عماد ورقة التسوية التي يحملها هوكشتاين، ما يجعل من البديهي الإستنتاج بأنّ نتنياهو يرسل جواباً سلبياً.

ولم يتأخّر «حزب الله» كثيراً في رسالته الجوابية. وكان لافتاً أن يعمد لإطلاق صواريخه لتصل لأبعد مدى في العمق الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب (حوالى 150 كلم)، وكذلك لأن تصل الكثافة الى أكثر من 250 صاروخاً. ومفاد رسالة «حزب الله» الجوابية أنّ قوته الصاروخية لا تزال سليمة إلى حدّ بعيد، ما يسمح لها بإطلاق صواريخ نوعية وبأعداد كبيرة. وهو ما يعني أيضاً القدرة على الاستمرار في الحرب لفترة طويلة.

في الواقع، لم يتفاجأ كثير من المراقبين من فشل مهمّة هوكشتاين ولو موقتاً. فهو سيغيب لفترة لا تقل عن أسبوعين بسبب عطلة «عيد الشكر»، في وقت يعتقد البعض أنّ الوقت يسابقه وقد يرحل مع إدارة بايدن قبل أن يستطيع العودة مجدداً الى المنطقة.

وعلى رغم من ذلك، فإنّ ورقة البنود الـ13 لم تسقط بل وضعتها إسرائيل جانباً، أملاً في تعديلها في حال تمكّنها من إحراز أوراق ميدانية في الجنوب، والأهم أن تكون الظروف الإقليمية العريضة قد نضجت وأصبحت ملائمة لإنجاز الصفقة الكبرى وهنا بيت القصيد.

فعلى المستوى الإيراني، كان لافتاً كلام مستشار المرشد علي لاريجاني، حين كتب على حسابه على منصة «إكس» أنّ طهران وواشنطن دخلتا في وضع جديد في ما يتعلق بالملف النووي»، وتابع قائلا إنّه «إذا أرادت الإدارة الأميركية الجديدة أن لا نمتلك سلاحاً نووياً فعليها قبول شروطنا مثل تعويض الخسائر ومنح امتيازات أخرى». والسؤال البديهي هنا عن المقصود تحديداً بالوضع الجديد، وعمّا إذا كان يعني بدء المفاوضات، خصوصاً أنّ كلامه كان موجّهاً حصراً إلى الإدارة الجديدة، أي إدارة دونالد ترامب. كذلك فهو تحدث عن تعويضات وامتيازات. وفي مكان آخر أعلنت طهران عبر وكالة أنباء الطاقة الإيرانية، أنّها تعتزم تشغيل آلاف أجهزة الطرد المركزي الجديدة لتخصيب اليورانيوم. وتوقعت الوكالة أن يجري تركيب هذه الأجهزة خلال فترة تتراوح ما بين 4 الى 6 اشهر، وهو ما دفع للاستنتاج أنّ إيران تضع فترة محدّدة للتفاوض مع إدارة ترامب تبدأ الآن ومن المفترض أن تثمر بعد شهرين من دخول ترامب البيت الأبيض، أي بدءاً من شهر آذار المقبل.

وفي المهلة الزمنية نفسها ستسعى إدارة ترامب لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا من خلال جعل الأراضي التي احتلتها روسيا منطقة منزوعة السلاح. والرابط المشترك هنا بين النووي وأوكرانيا هي المهمّة التي ستتولّاها روسيا لقطع طريق الإمداد البري بين إيران و«حزب الله» في لبنان، وهو ما يشكّل هدفاً رئيسياً لنتنياهو لوقف الحرب في لبنان، وكذلك لواشنطن التي تريد إنهاء الإنفلاش الإيراني في المنطقة وإعادة نفوذ النظام الديني الإيراني إلى داخل حدوده.

وفي الأمس أغارت الطائرات الإسرائيلية على معبر «جوسية» عند الحدود اللبنانية-السورية في منطقة القصير ودمّرته للمرّة الثالثة منذ بدء الحرب، وهو المعروف بالمنفذ البري الذي يخضع للنفوذ الكامل لـ«حزب الله». وقبل ذلك كانت الطائرات الإسرائيلية قد نفّذت غارة قاسية على منطقة تدمر والتي تتميز بأنّها تقع في قلب خط الإمداد الرئيسي من إيران إلى «حزب الله» في لبنان عبر العراق عند منطقة البوكمال عند الحدود مع سوريا ومن ثم دير الزور وريفها إلى البادية السورية ومنها إلى منطقة القلمون وريف حمص الغربي وصولاً الى القصير فالبقاع. وتدمر التي تقع في قلب البادية السورية يحوط بها عدد من المطارات العسكرية التي يتخذ من بعضها الإيرانيون مراكز رئيسية لقواتهم، وأشهرها على الإطلاق مطار «تي فور» وهو أحد أكبر المطارات العسكرية في سوريا. وكان المقصود من الرسالة الإسرائيلية أنّ الخط البري الذي يربط إيران بـ«حزب الله» هو هدف رئيسي لتل أبيب. وهنا يبرز دور روسيا خصوصاً لجهة ضبط الحدود اللبنانية ـ السورية وجعلها غير قابلة للخرق بالتعاون مع الجيش السوري. ولكن لهذه المهمّة أثمانها على مستوى أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا وأيضاً على مستوى الانفتاح على النظام السوري وإعادة التطبيع معه.

وفي جنوب سوريا، عززت موسكو من حضورها العسكري، حيث أقامت 9 نقاط مراقبة، وهو ما فسّرته لدمشق بأنّه لحماية جنوب سوريا من أي تقدّم عسكري إسرائيلي قد تفكر به للدخول براً والإلتفاف في اتجاه الجنوب اللبناني. وهو ما يريح طهران أيضاً ولو أنّه تمّ إدراج الخطوة في إطار سياسة التوازن التي تتبعها روسيا في سوريا. لكن موسكو تدرك جيداً أنّ ما من أولوية إيرانية في سوريا تسبق موضوع الطريق البري مع لبنان، والذي شكّل أحد أبرز أهداف التدخّل العسكري لـ«حزب الله» وإيران في سوريا.

وهنا يمكن تفسير كلام لاريجاني حول «الإمتيازات» التي يتحدث عنها. لكن منشوره على منصة «إكس» يوحي ببدء التفاوض ولكن هذه المرّة ليست كما العام 2015، فالظروف تغيّرت وكثير من أوراق القوة التي كانت تمسك بها إيران قد احترقت. على رغم من اقتناع الجميع بأنّ طهران تنجح عادة في التقاط أوراق قوة جديدة في الفوضى، والشرق الأوسط غارق حالياً في الفوضى. وتلفت في هذا المجال حادثتان أمنيتان خطيرتان قد تشكّلان مؤشراً مستقبلياً. الأولى في العاصمة الأردنية عمان مع المسلح بالقرب من السفارة الإسرائيلية، والثانية وهي الأهم مع الحادث الأمني الأول من نوعه في دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال اختطاف الضابط الحاخام الإسرائيلي وقتله وتصنيف نتنياهو له بأنّه حادث أمني.

ومن الواقعي الإعتقاد بأنّ إسرائيل قد تجد أنّ من الأفضل تأجيل أي تسوية عريضة مع لبنان إلى حين وصول إدارة ترامب وإنجازها لصفقة كبرى وعندها تكون التسوية اللبنانية أحد فروعها. وفي انتظار هذا الوقت ستعمل إسرائيل على توظيف الوقت الفاصل عبر السعي للوصول براً إلى الليطاني بهدف تدمير كل البنية التحتية العسكرية لـ«حزب الله»، ما يجعل من الصعوبة بمكان إعادة ترميمها لاحقاً. وهو ما سيسمح أيضاً بتعديل بعض البنود لمصلحتها. ولذلك أيضاً ردّ «حزب الله» بنحو قوي وعنيف بهدف زيادة الضغط الداخلي على نتنياهو، وبالتالي عدم منحه ترف الوقت، وأيضاً للإيحاء بأنّ قدرات «حزب الله» العسكرية لا تزال قوية وقادرة. وتلفت هنا الزيارة التي قام بها قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي الجنرال مايك كوريلا إلى تل أبيب، حيث اجتمع برئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي وتركز البحث على الوضع العسكري في لبنان.

لكن ثمة قلقاً عند اللبنانيين من أن تغرق إدارة ترامب في التعقيدات، وأن تنزلق إلى المواجهات وبالتالي الإبتعاد رويداً رويداً عن فرض الحلول. وقد يكون لهذا القلق أسبابه الوجيهة والمحقة، لكن لإدارة ترامب برنامجها الإصلاحي الداخلي الصاخب، ما يجعلها ملزمة بإنجاز التسويات الخارجية للتفرّغ للملفات الداخلية الصعبة. كما أنّ ترامب هو رجل الصفقات والإقتصاد. والمقصود هنا أنّ إنجاز التفاهمات مع إيران حول النووي ومع روسيا حول أوكرانيا سيؤدي الى شطب العقوبات والتي يعتبرها أنّها أثرت سلباً على قوة الدولار.

وفي هذا الإطار اعترف أحد زعماء الحزب الديموقراطي الاميركي، أنّ الإقتصاد كان السبب الرئيسي لخسارة حزبه الإنتخابات، وبالتالي فإنّ ترامب ملزم من الآن لتحسين معيشة الأميركيين لضمان ولائهم في معاركه الداخلية الصعبة التي يتأهّب لخوضها.

باختصار، فإنّ ظروف التسوية في لبنان لم تنضج بعد، ولو أنّها لن تتأخّر كثيراً ربطاً بالصفقة الدولية الكبرى.