كنيسة و7 منازل أقوى من الحرب: سَرَدا "قنّوبين الجنوب"... بين عَبَق التاريخ وعبء الجغرافيا

في تلك الناحية من الخريطة المصلوبة فوق خشبة الأزمات المتلاحقة، كانت سَرَدا تستكين في نُسكها الصافي بين عطر الأرض وعبق الصلاة، كأنها تُلاقي بمعانيها الروحية قرية قنوبين الشمالية.

تجلس تحت تلّة الحمامص وتفتح ذراعيها لسهل مرجعيون، تتكئ على صخرة الصمود القليعة. جذورها عتيقة الزمان، فيها سبعة منازل (الرقم الذي يرمز كتابيّاً إلى الكمال) وكنيسة مار يوحنا المعمدان.

تتألف من عائلتين هما جبّور وبو فرحات. يبلغ عدد قاطنيها نحو 20 شخصاً (من أصل حوالى 350) وتتبع أراضيها لوقف رعية مار جرجس المارونية - القليعة.

تفوح من أهلها رائحة النقاوة والصفاء، داخل أجسامهم وبنيتهم القويّة تنبع الطيبة والكرم والضيافة، وفي أياديهم الخشنة، تقرأ صلابة الأجداد وحكايات البطولات والنضالات التي نسجت حدود لبنان، لبنان فقط.

طيلة معارك الإسناد والمشاغلة، صمد أهل سردا رغم وجودهم فوق خطّ حدوديّ ساخنٍ. لكن قبل يومين من العملية العسكرية البريّة التي نفّذها الجيش الإسرائيلي، وتحديداً قبيل معركة الخيام (في تشرين الثاني 2024)، أُجبروا على النزوح إلى القليعة، وعادوا إليها منذ 4 أيام على وقع قرع الأجراس وبرفقة موكب كبير من شباب وشابات القليعة، الذين تحوّلوا خلية عمل لرفع الأنقاض.

ما يُدمي قلوب جريس وسامية، جان وجيلبير، زكي وهاسميك، غنطوس ودولّي وغيرهم، هو أنهم دفعوا أثمان حربٍ ليست حربهم. والغصّة، هي "من أجل من هُجّرنا وسُحقت منازلنا وأحلامنا وكرومنا؟ من له الحقّ في تقرير مصيرنا؟ من يُعيد لنا الأيام التي سُرقت منّا في سبيل قضايا وأوهام لم تجلب إلينا سوى الويلات؟".

في حرقتهم ووجعهم وصرختهم لا تسمع سوى الحقيقة كما هي، من دون عِقَدٍ أو نكران. صلابتهم لا تخلو من إنسانيتهم، لم يجرّدهم إيمانهم من حزنهم على تعب السنين، فتلك البيوت والأراضي، عُمّرت وزُرعت بالعرق والتعب و"الأبانا".

بعواطف ومشاعر مشحونة بحبّ وشغفٍ كبيرين، يتحدّث الزميل لطف الله ضاهر (ابن القليعة) عن قرية خِلّانه (أخواله)، عن الذكريات المعجونة بالحقول والكروم والبيوت الدافئة، عن حلقات الدبكة والسهر والأفراح، عن كنيستها وأفيائها التي تحوّلت ملجأ للهاربين من الضجيج والصخب، بحثاً عن صلاة تجد في السكون، جسر عبورٍ إلى قلب الله. يُخبرنا عن الضيعة التي جرفها الجيش الإسرائيلي وخرّب كنيستها، وجعل منازلها مراكز عسكرية له، وكتب على جدرانها كتابات عبرية. اقتلع أشجارها، ولم تسلم منه علامة السلام، أي الزيتون، الذي طُحن هذه المرّة في معصرة الحروب، وتحوّل زيته دمعاً يروي التراب ويبلسم الأفئدة المجرّحة، التي خسرت مساكنها وأرزاقها، لعلّه يُزهر سلاماً واستقراراً.

عن المونسنيور منصور الحكيم، ذاك الكاهن البترونيّ "القبضاي" (ابن عرطز)، الذي أتى شاباً إلى القليعة أواخر الستينات، وكان من المفترض أن تكون خدمته فيها لأشهر معدودة، لكنّه سرعان ما أحب تلك البلدة البعيدة عن دياره. جذبته عزيمة أبنائها وشجاعتهم، كأنهم جُبِلوا من طينة واحدة من خبز الوطنية وخمر الحريّة.

ومع اندلاع الحرب الأهلية الأليمة في لبنان، وتعرّض القليعة والمسيحيين والمسلمين أيضاً لتهديد وجوديّ على يد المنظمات الفلسطينية وحلفائها، وقف الكاهن الشجاع إلى جانب رعيّته وسطّروا معاً، أروع ملاحم الصمود والتجذّر، ومكث فيها طيلة حياته، إلى أن انتقل إلى جوار ربّه في آذار 2021 بسبب مضاعفات فيروس كورونا.

كان للأب منصور محبّة كبيرة لسردا، إذ ساهم في ثبات أهلها، وشجّع المسيحيين من البلدات المجاورة على استثمار الأراضي، وقدّمت الكنيسة دونماً لكلّ من يريد تشييد بيت. كما جذبت القرية، بفضل سهولها الخصبة وتعاون الكنيسة مستثمرين مسيحيين من خارج المنطقة، وأنشأوا مشاريع زراعية ضخمة، وتزيّنت سهولها بالأشجار المثمرة المتنوّعة، ورسم الدرّاق بزهوره لوحاته الخلّابة.

في سردا تتجسّد "الضيعة" بكلّ معانيها، أُناسها دُعوا إلى الحياة، إلى الحفاظ على آخر معاقل الطيبة والروح القروية اللبنانية الجميلة. إنها حكاية لن يطمرها "الطوفان" ولن تمحوها الحروب.