غياب الرواية الرسمية اللبنانية (أو المُغيّبة) لمجريات الحرب على الحدود الجنوبية، انتقل اليوم الى غياب الخبر الرسمي، مع إضراب موظفي "الوكالة الوطنية للاعلام" الذي كان قد بدأ في منتصف الأسبوع الماضي طلباً لتحصيل حقوقهم المالية، ما فتح الباب لأنباء تنتشر بلا مصادر موثوقة، وزاد مجريات الحرب تعتيماً على ما كانت تعانيه، وأفقَدَ التطورات الميدانية صفة "المركزية"، فباتت الروايات عبارة عن "بازل"، يجري تركيبها بـ"شتات" معلومات، ومراسلين لا ينتشرون في كل الميادين.
غابت الرواية المركزية عن ضربات بعلبك والجنوب، الاثنين. في حالات مشابهة، وفي ظل غياب الخبر الرسمي في لبنان بالتزامن مع إلتهاب الميادين، تزدحم الشاشات المحلية وبعض الفضائيات العربية بالمعلومات والانباء المستقاة من المراسلين الميدانيين، كما تجتاح منصات التواصل الاجتماعي معلومات تحتاج الى توثيق وتدقيق. بغياب الخبر الرسمي، باتت منصات التواصل والمجموعات الاخبارية تُشكّل مصدراً أساسياً للأنباء لدى الجمهور اللبناني، إذ يعتبرها الكثيرون مرجعية لتلقّي الأخبار والتحليلات وتقدير المواقف.
وحال لبنان، مخالفة لأحوال غالبية بلدان العالم التي تعتبر فيها الدولة، مرجعاً اساسياً للمعلومات في الأزمات. عند تعرّضها لإعتداءات خارجية أو حروب، تُطلق صافرات الإنذار التي تتحكم بها الدولة، ويقبض المتحدثون الرسميون للاعلام على مصادر المعلومات، منعاً للتشويش، وتقليصاً لمستوى المخاوف. وهو أمر مفقود في لبنان، حيث لا إعلام رسمياً معنيّاً وحاضراً، ولا متحدثين رسميين يغدقون بالمعلومات على إعلام محلي مسؤول يتعاطى على مستوى الحدث، هذه العوامل والإخفاقات تترك المساحات فارغة لأصوات تملأ مواقع التواصل بالتحليلات.
في الواقع، فتح هذا الغياب، عملياً، باباً واسعاً لبعض الشخصيات من محللين ومؤثّرين في العالم الرقمي، للحديث عن مآلات الجبهة اللبنانية والسيناريوهات المرتقبة في الأيام المُقبلة وتقديرات الخطط العسكرية الإسرائيلية، ومما لا شك فيه أن غياب الإعلام الرسمي اللبناني وبياناته حول التطورات اليومية عزّز حضور هذه الأصوات وإنتشار تحليلاتها.
عملياً، هي تحليلات لا تستند إلى معطيات واضحة، وتنطلق من قراءات تدل على ضعف المخزون السياسي من جهة، والجهل المعرفي بالقواعد العسكرية والسياسية من جهة أخرى، وتحديداً في ما يخص الجبهة الجنوبية في لبنان التي تتمتع بخصوصية وقواعد بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله، ومن غير المعلوم ما القصد من التهويل وطرح سيناريوهات تُنذر بقرب الحرب الكبرى وأن جيش الإسرائيلي يُحضّر لضربات كبيرة وأن المنطقة ستشتعل والجنوب سُيجتاح!
تنتشر المخاوف في الشاشات تحت شعار "الأكشن" القادر على تحقيق أمرين: الجذب والاستقطاب! يعتمد كثير من هؤلاء المؤثرين على تحليلات وأخبار ومواد منسوبة لبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أو المواقع الالكترونية، إذ يستدل هؤلاء عند طرحهم لتحليلاتهم إلى مواد أو أخبار من هذه الوسائل الإعلامية أو المواقع الالكترونية والتي تعتبر في إسرائيل ولدى الجمهور الإسرائيلي فاقدة للمصداقية والموضوعية. وفي كثير من الأحيان، تُشكل بعض المواد جزءاً من الحرب النفسية التي تخوضها أجهزة أمنية إسرائيلية ومن يرتبط بها إعلامياً ورقمياً.
إزاء ذلك، يقع اللبنانيون فريسة فئة تستغل وتستثمر في أوجاع الناس ومخاوفها لتحصيل المشاهدات ولنيل الشهرة وصناعة النجومية. المعضلة الرئيسية التي تسببها هذه الأجواء تكمن في ترتيب آثار وأضرار لا يستهان بها في الداخل اللبناني، وتحديداً في تداعياتها على الناس. فمع تصاعد وتيرة التخويف الالكتروني، يقوم المواطن اللبناني بنقل منزله، أو يحجز تذاكر سفر، وغيرها من التدابير التي قد تكبّده أعباء مالية في ظل وضع إقتصادي صعب وقاسٍ، ومن جانب آخر يدفع هذا الجو إلى خلق حالة من التوتر العام، ويدفع بعض المحتكرين إلى رفع أسعار بعض البضائع.
واسوأ ما في الأمر، أن هؤلاء المؤثرين الذين تنتشر فيديوهاتهم بشكل واسع، يظهرون في وسائل إعلام وفضائيات تُعتبر مرموقة ومُتّزنة، وهذا ما يدفع الجمهور للثقة في تلك الآراء. هي دورة كاملة، تبدأ من غياب المعلومات الرسمية، وغياب الخبر الرسمي، وغياب الرواية الرسمية، ولا تنتهي في شاشات الفضائيات التي تقع ضحية تقديرات غير علمية.
التذكير بهذه السياسات الاعلامية الضرورية، لا ينفي بالتأكيد المخاطر، لكنه آلية ضرورية لمنع التضليل وبث خطاب الخوف، والإصرار على بث تحليل يتمتع بالحد الأدنى من الواقعية. المصدر الموثوق قادر على خلق حالة من التوازن لكي يتمكّن اللبنانيون من رسم خطوط حياتهم بعيداً من الخوف والتوتر.