لبنان "غائب عن السمع"

كتب جوني منيّر في الجمهورية: 

قلّة قليلة من اللبنانيين تعمل على رصد التحوّلات الهائلة التي تجري في الشرق الاوسط. فالسواد الأعظم من اللبنانيين غارق في التفاصيل المملة للتحالفات الانتخابية، وفي التداعيات القاسية والمؤلمة للانهيارات المتتالية التي تصيب اللبنانيين في معيشتهم ورزقهم. على الرغم من انّ التحولات الكبرى الجارية تصيب لبنان في العمق وترسم ملامح مستقبله.

قبل اوكرانيا كان الشرق الاوسط بدأ يعتاد فكرة تنويع التفاهمات الدولية، بعد عقود عدة التزمت فيها خصوصاً الدول الخليجية النفطية على أحادية العلاقة الدولية مع الولايات المتحدة الاميركية.

كانت الصين بدأت تثبت دورها الدولي من خلال دخولها الاقتصادي السخي، ولو بطريقة ناعمة، الى الشرق الاوسط. ركّزت قاعدة مهمّة لها في الامارات ووصل تمدّدها الاقتصادي الناعم الى ميناء حيفا الاسرائيلي، ولم يستثن التغلغل الصيني لبنان، حيث زارته وفود صينية وقدّمت عروضها، وطالت في بعض جوانبها مساعدات للجيش اللبناني ولو انّها بقيت خجولة وحذرة ومدروسة. الّا أنّ «عمولات» الفساد التي امتاز بها اطراف الطبقة السياسية الحاكمة وبأسلوب وقح في بعض الأحيان، دفع الصينيين الى الإنكفاء عن لبنان ولو مؤقتاً.

وكذلك دخلت روسيا الى الشرق الاوسط، ولكن من باب آخر له علاقة بالسطوة وهيبة النفوذ العسكري، والذي عززته انطلاقاً من دخولها العسكري الناجح الى سوريا. فرضت موسكو هيبتها ورهبتها في الشرق الاوسط، وتقدّمت لبيع اسلحتها وتقديم نفسها على انّها قادرة على ان تشكّل حداً للنفوذ الاميركي في المنطقة، وهي لذلك أنجزت «شراكة» عسكرية مع اسرائيل في سوريا، مستندة على مشروع سياسي بعيد الأمد، وإرغام إيران على التمسّك بروسيا لإضعاف الحضور الاميركي واستيعاب تركيا التي أضحت في الكماشة الروسية، بعد ان شكّلت سابقاً سداً امام الطموح الروسي في اتجاه الشرق الاوسط. ولكن مع تعثر الهجوم العسكري الروسي في اوكرانيا اختلفت الصورة جذرياً، ذلك انّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المهجوس باستعادة زمن تقاسم العالم مع الاميركيين، خذلته قيادته العسكرية.

فبدل ان تشكّل اوكرانيا مدخلاً لإعادة تقاسم النفوذ في اوروبا، وبالتالي استعادة وزن موسكو على المستوى العالمي، ادّى التعثر الحاصل الى إجهاض محاولات روسيا ومعها الصين، لإعادة ترتيب نظام عالمي جديد يعتمد على تحدّي واشنطن. والأكيد انّ الاتفاق النووي مع إيران أوجب حركة ناشطة في الشرق الاوسط لترتيب مرحلة ما بعد الاتفاق، لكن النتائج المتمخضة عن الحرب الدائرة في اوكرانيا أعطت زخماً اكبر لهذه الحركة، والأهم انّها أعطت عنواناً واضحاً لها. ولا شك في انّ أبرز القمم المتلاحقة التي عُقدت في الشرق الاوسط كانت قمة النقب، والتي جرت في حضور وزير الخارجية الاميركية، ما يعني التسليم بالقيادة الاميركية.

فخلال الاسابيع المنصرمة ظهرت الى العلن الخلافات بين السعودية والامارات من جهة والادارة الاميركية من جهة اخرى.

وساهم في ظهور تعديل في سلوك الخليج، تقدّم مكانة روسيا والصين في الشرق الاوسط، وتعزز هذا المفهوم بعد ان ضرب الحوثيون قلب السعودية والإمارات من دون أي ردّ او حماية اميركية، ما جعل أمنهما مكشوفاً.

لكن من السذاجة بمكان الاعتقاد أنّه يمكن بناء تحالف كامل متكامل بمجرد صدور بيان مشترك بين مجتمعين كانوا على عداء منذ قيام دولة اسرائيل، خصوصاً انّ الجانب الفلسطيني كان أحد ابرز الغائبين. فالمشكلات والخلافات اعمق وأكثر تعقيداً وهي تطال شعوباً عاشت لعقود على عقيدة الارض المحتلة ومصير القدس.

وجاءت العمليات الأمنية الثلاث لتؤكّد ذلك، خصوصاً انّه لم يتبين حتى الساعة وجود قيادة واحدة تولّت تحريك المهاجمين. وجاءت جرأة العمليات كتأكيد على عمق الخلافات التي لا يمكن محوها ببيان ختامي.

لكن قمة النقب تمثل بداية جدّية لانعطافة حادة في إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة. ولا شك في انّ اقتراب الإعلان عن العودة الى الاتفاق النووي الايراني شكّل دفعاً للاستعجال في بناء محاور جديدة، قبل ان تعمل ايران على التفرّغ دولياً، وان «تعوم» مالياً وتعمل على تثبيت مواقعها اقليمياً.

في النقب تفاهم على حلف بزعامة اسرائيلية سيجري صقله من خلال تحالف عسكري تقوده اسرائيل، ولكنه يبقى بعيداً من الإطار الإداري والتنظيمي المعلن، بهدف عدم إحراج الاطراف العربية مع شارعها.

التلفزيون الاسرائيلي اكتفى بالحديث عن تشكيل تحالف وصفه بالدفاعي الاقليمي مع دول عربية اعتبرها معتدلة، وذلك خلال الاشهر المقبلة، على ان يشمل ذلك تدريبات مشتركة واستعدادات لمواجهة ايران، واعطت دوراً رئيسياً ومحورياً لقائد سلاح الجو الاسرائيلي.

في موازاة ذلك، شكّلت قمة «العقبة» والتي شارك فيها اضافة الى الاردن، الامارات ومصر والعراق، إشارة الى قيام محور آخر هدفه ايضاً منع ايران من التمدّد غرباً، وهو ما يعني انّه بمثابة حائط صدّ لكبح جموح إيران في اتجاه سوريا ولبنان والداخل الفلسطيني وبالتالي تهديد مصر.

البعض أطلق على هذا المحور اسم «الشام الجديد»، والبعض الآخر «الهلال الخصيب الجديد».

وإذا كان محور «النقب» سيأخذ على عاتقه موضوع الغاز في شرق البحر الابيض المتوسط، فإنّ محور «الهلال الخصيب الجديد» يطمح لتدشين خط بري يربط بين العراق والاردن وسيناء في مصر. وبالتالي جعل خط التماس مع ايران في العراق بدل ان يكون في سيناء وفي قلب الخليج. وفيما يلحظ هذا المشروع ان يطاول سوريا ولبنان لاحقاً، تعمل الامارات على ان تتولّى التمويل، خصوصاً انّ مجالات التعاون ستطال الأوجه الاقتصادية والسياسية. كمثل تعزيز الربط الكهربائي وتبادل الطاقة، مع الإشارة هنا الى استجرار الغاز والطاقة الكهربائية عبر خط مصر - الاردن - سوريا ولبنان. إضافة الى إقامة منافذ لتصدير النفط العراقي عبر الاردن، والمضي في استكمال خط الغاز العربي وإنشاء خط لنقل النفط الخام من البصرة الى العقبة.

وبالتالي، فإنّ تحالف «الهلال الخصيب الجديد» يشكّل امتداداً للتحالف الناشئ عن اجتماع النقب، خصوصاً انّ حلف «النقب» سيتولّى امر تدفق الغاز شرق البحر المتوسط. وهذا ما استوجب تقارباً اسرائيلياً مع تركيا، خصوصاً انّ لاسرائيل وتركيا تقاطعاً في وجه ايران أيضاً، لكن في جبهة اخرى هي «ناغورنو كاراباخ». حلف «النقب» سيهتم بالساحل الشرقي للبحر المتوسط ولبنان في صلبه، وهو الذي يخوض مفاوضات لترسيم حدوده البحرية. وحلف «الهلال الخصيب الجديد» سيتولّى ضمان الملاحة في البحر الاحمر من تهديدات الحوثيين وتزويد لبنان الغاز عن طريق الاردن وسوريا، وسيعمل على استمالة سوريا من حضن الإيرانيين.

وفي المقابل، ستعمل ايران بعد توقيع الاتفاق النووي وتحرير أرصدتها المالية، على تنظيم جهودها لتثبيت مواقعها ولا بل تعزيزها، خصوصاً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، اضافة الى غزة.

وتبدو مصر ملتزمة جوانب من الساحة اللبنانية من خلال التحالفين، وهو ما يعني انّه سيكون لمصر دور أساسي مستقبلاً في الملف اللبناني، وأيضاً بالتزام جانب ما في الملف السوري. والدور المصري ليس جديداً، فهو كان بدأ، ولو من دون ضجة إعلامية، مع الإخراج الذي واكب ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، يومها لعبت مصر دوراً فاعلاً من أجل تأمين هذه الولادة، وبات يتصاعد دورها، وهو ما شمل استقبال شخصيات لبنانية كان آخرها البطريرك الراعي. لكن، هذا لا يعني انّ الدور المصري مضمون، ففي السابق جرى تلزيم جانب من الملف الليبي لمصر لكنها فشلت هناك. أما الآن، فصحيح انّ الظروف مختلفة في الملف اللبناني، لكن يجب الّا ننسى انّ إيران ستواجه تقليص دورها في لبنان، وزيارة وزير الخارجية الايرانية الأخيرة اشارة واضحة في هذا الإطار. وهو ما يعني انّ لبنان موجود في قلب هذه التحولات الضخمة الجاري تثبيتها، على الرغم من انّه غائب عن السمع.