المصدر: المدن
الكاتب: خضر حسان
الخميس 22 آب 2024 16:23:38
كتب خضر حسان في المدن:
بانزلاقه نحو الاقتصاد النقدي الذي شكَّلَ مستنقعاً لنموّ الجرائم المالية، وفي مقدّمها غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ينتظر لبنان نطق مجموعة العمل المالي FATF بالحُكم الذي يرتّب تداعيات دولية قادرة على إغلاق ما تبقّى من منافذ تربط هذا البلد بالعالَم. وتتسلّل التداعيات لتصيب الناس، وخصوصاً فئة المودعين منهم، فتُعقِّد أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. ورغم "محاولات الإصلاح" التي قام بها المصرف المركزي، إلاّ أن لبنان ما زال "مشبوهاً" ما لم يُثبِت براءته عبر نشاط إصلاحي اقتصادي ومصرفي، يقوده الإصلاح السياسي. وهو أمر مُستَبعَد وفق ما تبيِّنه المعطيات الراهنة التي تعقِّدها ظروف الحرب وتشعّباتها الداخلية والإقليمية والدولية... فهل ننجو؟
فرصة ضائعة
تتفاوت الأرقام حول حجم الاقتصاد النقدي، فخلال "الملتقى السنوي لمكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب: تداعيات الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي"، الذي عقد في بيروت اليوم الخميس 22 آب، بيَّنَ رئيس هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان عبد الحفيظ منصور، أن "حجم الاقتصاد النقدي يبلغ 14 مليار دولار، ما يشكِّل نصف حجم الاقتصاد"، في حين رأى رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب جوزيف طربيه، أن حجم ذلك الاقتصاد "يبلغ 10 مليارات دولار في العام 2024. صاعداً من 4.5 مليار دولار في العام 2020". على أن التفاوت لا يشكِّل فارقاً جوهرياً في تقييم FATF للمخاطر، التي قد تؤدّي لإدراج لبنان على القائمة الرمادية، والتي تعني وضع نظامه المالي تحت مراقبة شديدة قد تحيله مستقبلاً إلى القائمة السوداء.
وتشكِّل مصادفة انعقاد الملتقى بالتزامن مع الحرب في الجنوب، فرصة برأي حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، للتأكيد على أن "احتمالية إدراج لبنان على اللائحة الرمادية قد تكون له تداعيات لا تقلّ خطورة عن الاضطرابات الأمنية". لكن رفع درجات التحذير لا يلغي حقيقة أن لبنان أضاع فرصة لمدّة سنة، أعطتها مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENAFATF خلال اجتماعها في أيار 2023 في البحرين، علَّ لبنان يجري الإصلاحات ويتفادى تصنيفه ضمن اللائحة الرمادية.
محاولات مصرف لبنان الإصلاحية
بانتظار قرار FATF "في الخريف المقبل"، وفق منصوري، لم يتقاعس مصرف لبنان عن اتخاذ الإجراءات لتفادي الإدراج على اللائحة الرمادية. إذ لا تزال حاضرةً تجربة إدراجه في العام 2000 على قائمة الدول غير المتعاونة "بسبب وجود قانون السرية المصرفية الذي يعيق عمل التحقيقات الدولية وعدم وجود آنذاك قانون مستقل لمكافحة تبييض الأموال".
وحسب منصوري "صدر قانون مكافحة الفساد في القطاع العام في العام 2020، وأنشئت بموجبه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رسمياً. وأقر مجلس النواب في العام 2021 القانون الخاص باستعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد. وعمدَ مصرف لبنان إلى إصدار التعاميم اللازمة تباعاً لمواكبة هذه التشريعات وتحصين المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية. لكن السنوات الماضية كانت حافلة بالصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والأمنية الناتجة عن الأزمة المتعددة الأوجه التي ألمَّت بلبنان والتأخير في تنفيذ الاصلاحات المنشودة. أضف الى ذلك تدهور الأوضاع الجيوسياسية جرّاء الحرب المستمرة على غزة وجنوب لبنان وتداعياتها الملموسة على الوضع الاقتصادي في البلد".
أيضاً، وتحت وطأة "الانكماش الحادّ للاقتصاد منذ بداية الأزمة لغاية اليوم وانخفاض الناتج المحلي من نحو 55 مليار دولار إلى أدنى من 20 ملياراً، وفقدان الليرة 98 بالمئة من قيمتها، وبلوغ متوسّط التضخّم 221.3 بالمئة في العام 2023، وانخفاض الموازنة من 17 مليار دولار إلى 3.2 مليار"، بات هناك "حالة من عدم الثقة لدى المودعين، مما حَرَفَ النشاط الاقتصادي إلى خارج النظام المصرفي وأصبح نقدياً بمجمله ويعكس تحولاً سريعاً نحو المعاملات النقدية بالعملات الصعبة وزيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، مما يشكّلَ خطراً كبيراً على الدولة ويهدد بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان في مجال مكافحة تبييض الأموال في القطاع المصرفي".
ولمواجهة هذا الاتجاه، أوضحَ منصوري أن مصرف لبنان "أصدر التعميم 165 الذي أتاح فتح حسابات جديدة بالأموال النقدية بالدولار والليرة، لاستعمالها لتسوية التحاويل المصرفية الإلكتروية الخاصة بالأموال النقدية، وتسوية مقاصة الشيكات التي يتم تداولها أيضاً بالأموال النقدية، مما يحد من محاولات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ويحجم الاقتصاد النقدي. كما يعمل مصرف لبنان على تطبيق إجراءات لتعزيز استخدام وسائل الدفع الإلكترونية، بهدف تقليل الاعتماد على النقد في السوق اللبناني. وتتماشى هذه المبادرات مع المعايير الدولية، لا سيما تلك التي تهدف إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب".
المخاطر قائمة
الكثير من أدلة الإصلاح المتعلّقة بمصرف لبنان، عُرِضَت في الملتقى. إلاّ أن غياب الثقة بالقطاع المصرفي بقي العامل الأهم في اعتماد الأفراد والمؤسسات للاقتصاد النقدي بشكل كبير، حتى في ظل اضطرارهم إلى "التعايش مع القطاع المصرفي لحاجتهم إلى إجراء العمليات المالية والتحويلات عبر الحدود"، برأي منصور الذي أشار إلى أن "قيمة الحسابات الجديدة بالدولار لدى المصارف في العام 2024 بلغت نحو 3.6 مليارات دولار".
استمرار اختيار الاقتصاد النقدي يعني بالنسبة لمنصور أن لبنان لا يزال يواجه "ملاحظات وتنبيهات مؤسسات التمويل الدولية والبنوك المراسِلة"، فضلاً عن أن عملية تقييم لبنان التي بدأت في العام 2021 من قِبَل FATF لا تزال مستمرة "وتمّت في العام الماضي في ظل الظروف الصعبة والاستثنائية التي لا تزال سائدة لتاريخة". ولا يزال لبنان في حاجة إلى "إرسال تقارير متابعة لـFATF تظهر التقدُّم الحاصل على صعيد تنفيذ الاجراءات الإصلاحية ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلال العام 2024".
في الخريف القريب سيصدر حكم FATF، فإما أن يسجّل لبنان اسمه في اللائحة الرمادية أو يبقى خارجها، فيتحرّر بذلك من شبهة الجرائم المالية. والتحرّر ليسَ سهلاً، فعلاج الاقتصاد النقدي ومخاطره يبدأ باستعادة لبنان الثقة الداخلية والدولية. وهذه الغاية لن تتحقَّق وفق ما يقول لـ"المدن" الأمين العام لاتحاد المصارف العربية وسام فتّوح، إلاّ "بإعادة أموال المودعين". أما الإجراءات التي يقوم بها المصرف المركزي "فلا تكفي، في ظل عدم بدء السلطتين التشريعية والتنفيذية في وضع وتنفيذ القوانين الإصلاحية التي طلبها مصرف لبنان".
وعليه، يُبدي فتّوح "قلقاً كبيراً" من إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، وهو إجراء يستتبع "قطع العلاقات مع المصارف المراسلة، ويمثّل ذلك دماراً للبنان".