ماذا بعد جنوب الليطاني؟

ينتظر الوسطاء الدوليون وقبلهم اللبنانيون إعلان الحكومة خلال أيام الإنتهاء من تنفيذ حصرية السلاح في جنوب الليطاني والإستعداد للإنتقال إلى المرحلة الثانية في سياق تطبيق قرارها المتخذ في 5 و7 آب/ أغسطس المنصرم ليُبنى على واقع الحال مقتضاه. يتوقف على التحقق الميداني مما أنجزه الجيش في جنوب الليطاني استكمال اجتماع باريس الذي استضافته فرنسا وحضره ممثلون عن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، بما يقطع الطريق أمام تكرار الإخفاقات التي حصلت في جنوب الليطاني، وبما يؤدي إلى استكمال حصرية السلاح، وتتوقف على ذلك أيضاً حدود اندفاعة الوفد اللبناني المفاوض برئاسة السفير سيمون كرم الذي سيستأنف جولته الثالثة في 7 كانون الثاني /يناير  2026.

إن محاولة إيجاد تقاطعات بين ما صدر عن كل من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد جولة المفاوضات الثانية تبدو غير ممكنة، ففيما يؤكد عون على أولوية المطلب اللبناني بعودة سكان القرى الجنوبية الى قراهم ومنازلهم كمدخل للبحث بكل التفاصيل الأخرى، يصرّنتنياهوللمرة الثانية أن «الإجتماع بَحَث سبل دفع مبادرات إقتصادية مع لبنان تُبرِز المصلحة من إزالة تهديد الحزب». 

هذا الإفتراق بين الموقفين الذي أعقب مشاركة المستشارة الأميركية مورغان أورتاغوس في الإجتماع المشار إليه يؤكد رفض الجانبين الأميركي والإسرائيلي عودة الجنوبيين إلى قراهم إلا ضمن سياق متكامل، ليس أقلّه نزع السلاح نهائياً من شمال الليطاني، بعد جنوبه، بما لا يتيح عودة مقاتلي الحزب إلى الجنوب. وما  الحديث عن خطط إقتصادية سوى من قبيل التلويح أن المنطقة العازلة التي اقترحتها إسرائيل خلال المفاوضات التي سبقت اتّفاق وقف إطلاق النار لا زالت ماثلة كأحد الحلول المترتبة على فشل الدولة اللبنانية في نزع سلاح حزب الله.

لم يكن رفض حزب الله المتكرّر للتدخلات الدولية والإقليمية لوقف حرب الإسناد، وإحجام الدولة اللبنانية بكافة مواقعها عن إتخاذ موقف شجاع وانسياقها خلف سرديات الحزب سوى محاولات لبنانية للرهان على الوقت دون الأخذ بعين الإعتبار للظروف الموضوعية التي أنتجتها عملية طوفان الأقصى. وما اتّفاق وقف إطلاق النار الذي لم يكن سوى اتّفاقاً لإنقاذ ما تبقى، أو ربما إطاراً أمنياً يقي الحزب مرارة الإذعان سوى النتيجة الحتمية لذلك التجاهل. هذا وقد أضافت محاولات شراء الوقت من خلال الإلتفاف على قرار حصرية السلاح ــــــــــ تارة بالتلويح بتجنب الحرب الأهلية أو بإطلاق مفاهيم الإحتواء وعدم نقل السلاح وإستخدامه ـــــــــ  مزيداً من التعقيد، مما أفقد الدولة اللبنانية أوراقها التفاوضية وأدخلها أزمة ثقة إقليمية ودولية ومحلية حيال كل ما يمتّ إلى قدرتها على بسط سيادتها واستعادة قرارها الوطني. 

إن أولى تداعيات عملية طوفان الأقصى كان القرار الأميركي بإجتثاث الميليشيات الإيرانية من المنطقة بالرغم مما قدّمته لواشنطن من خدمات جلى على امتداد عقدين من الزمن وتحديداً منذ إسقاط صدام حسين، فليس من قبيل الصدفة أن يتم تدمير البنية التحتية لحزب الله ودفع الدولة اللبنانية لتوقيع اتّفاق بتجريد الحزب من السلاح في 23 نوفمبر ، وإسقاط بشار  الأسد في 8 ديسمبر ثم توقيع اتّفاق غزة في 15 كانون الثاني/ يناير ، وبعد ذلك حرب الأيام الاثني عشر بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة في يونيو/حزيران 2025.

ويستكمل المشهد الأميركي في العراق بعد انجاز الإنتخابات النيابية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني مع الدعوات لحصر السلاح بيد الدولة ومنع الفصائل المسلحة من المشاركة في الحكومة.

وفي هذا الإطار يأتي تحذّير وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث لبغداد من أي تدخل للفصائل المسلحة في العمليات العسكرية الأمريكية المقبلة قرب الأراضي العراقية، حيث يُفسّر الموقف الأميركي بأنه مؤشر على نفاد صبر واشنطن الاستراتيجي: إذ يتعين على الفصائل الآن إما الإنصياع للدولة وقبول نزع السلاح أو مواجهة ضربات محتملة.

إزاء كل ذلك كيف سيكون إنتقال لبنان إلى مرحلة ما بعد الليطاني، وهل سيتمكن المفاوض اللبناني من الإستفادة من الدروس المستخلصة؟

يؤكد عدد من المصادر الغربية والإقليمية أن الجيش اللبناني لا يزال أمامه الكثير من العمل لإثبات سيطرته جنوباً، وهذا يعني أن مرحلة التحقق مما أُنجز سيشكل الإطار العملاني للمرحلة القادمة كما سيرسم ملامح السلوك الأميركي مع لبنان وحدود حرية العمل للعدو الإسرائيلي. وبهذا فإن نموذج المنطقة الإقتصادية العازلة التي تزعم واشنطن وتل أبيب إنشاءها في جنوب لبنان قد يكون مرشحاً للتعميم تحت مسمّيات مختلفة في شمال الليطاني كما في البقاع والضاحية الجنوبية وربما في المياه الإقليمية اللبنانية.

وفيما يبدو المشهد العراقي أكثر مرونة منه في لبنان إذ أن عدداً من القوى السياسية الشيعية التي تمتلك أجنحة مسلحة بدأت مراجعة حقيقية لخطابها السياسي بما فيها مرجعية النجف ممثلة بالمرجع الأعلى علي السيستاني، إضافة إلى بعض القيادات السياسية الرئيسية، يبدو أن حزب الله لا زال في موقعه يفاضل بين إنقاذ لبنان وإسناد طهران.