المصدر: الراي الكويتية
الخميس 20 أيار 2021 00:56:20
على طريقة «أزمة تسلّم أزمة»، يَمْضي لبنان من تَخَبُّط إلى آخَر، ومن شجرة لا يكاد أن ينزل عنها ليصعد إلى أخرى، في قفزاتٍ باتت تحصل فوق القعر السحيق الذي يمتهن الائتلاف الحاكم تفريغه من أيّ «واقي صدماتٍ» كفيل بتجنيب البلاد السقوط... المميت.
وهذا ما عبّرتْ عنه بوضوح «العاصفةُ» التي أحدثتْها تصريحاتُ وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبة التي أدلى بها عبر قناة «الحرة» وتَعاطتْ معها دول الخليج العربي على أنها أقرب إلى «اعتداء ديبلوماسي» واصفةً إياها بأنها «مشينة وعنصرية» ومسيئة لهذه الدول وشعوبها ولا تنسجم مع العلاقات التاريخية اللبنانية - الخليجية، وطالبة بإزائها اعتذاراً رسمياً.
ورغم أن إعلان وهبة أمس تَنَحّيه غير المفاجئ عن مهماته بكتابٍ رسمي طلب فيه إعفاءه من مسؤولياته في الوزارة، عَكَس استشعار الائتلاف الحاكم لاسيما فريق رئيس الجمهورية ميشال عون (وهبة محسوب عليه) بحراجة الموقف في ضوء «الغضبة» الخليجية المتناسقة التي أضيف إليها تأييد من جامعة الدول العربية بحيث بدا كفّ يد الوزير المستقيل أقلّ الممكن لتفادي تَدَحْرُج الأزمة واستجرارها إجراءاتٍ تصعيدية تعقب مذكرات الاحتجاج الشديدة اللهجة التي سُلّمت الى سفراء لبنان في غالبية بلدان الخليج، إلّا أن علامات استفهام كبرى ارتسمت في بيروت حيال نقطتين:
* الأولى هل ستعتبر السعودية وبلدان الخليج الأخرى «التضحية» بوهبة، الذي عُيّنت مكانه بالوكالة نائبة رئيس الحكومة وزيرة الدفاع زينة عكر، كافيةً لـ «محو» الإساءات التي وجّهها رئيس «ديبلوماسية التهوّر» والتي جاءت لتعمّق «جراحَ» العلاقات بين لبنان وهذه البلدان، وسط اعتبار أوساط واسعة الاطلاع أن هذه «الهبّة الساخنة» جاءت لتزيد تَأَزُماً أزمةً تعتمل منذ أعوام على خلفية ما اعتُبر «مصادرة حزب الله إرادة الدولة اللبنانية»، وكان من آخِر فصولها إعلان الرياض قبل نحو شهر «انتهتْ فترة السماح» بإزاء شحنات المخدرات التي «تستهدف في شكل ممنهج أمن المملكة» والآتية من لبنان أو عبره وصولاً لحظْر استيراد إرساليات الخضار والفواكه اللبنانية.
وإذ ذكّرت هذه الأوساط بأن بيروت لم تكن نجحتْ في معالجة تداعيات قضية شحنات المخدرات حين عاجَلَها وزير «قلّة الديبلوماسية» بخطيئةٍ أثارت خشية كبيرة من نتائج وخيمة على علاقات «بلاد الأرز» مع امتدادها التاريخي و«حزام الأمان» الذي لطالما كان السنَد لها في الويلات التي ألمّت بها، اعتبرتْ أن ردّ الفعل السعودي والخليجي عموماً على قام به وهبة بدا أنه يوازي في وقْعه الانتكاسة الكبرى التي تعرّضت لها العلاقات اللبنانية - الخليجية في 2016.
وتستعيد الأوساط في هذا الإطار ما أعقب رفض وزير الخارجية اللبناني حينها جبران باسيل (صهر الرئيس ميشال عون) إدانةَ الاعتداءات على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد، حيث ردّت الرياض بالتطور الأكثر دراماتيكية في تاريخ العلاقات مع بيروت معلنة (في فبراير 2016 ) «مراجعة شاملة لعلاقاتها مع لبنان» تمّ تحت سقفها وقف مساعداتٍ كانت قرّرتْها (في 2013) لتسليح الجيش وقوى الأمن الداخلي بنحو 4 مليارات دولار، قبل أن تحظر غالبية دول الخليج سفر مواطنيها إلى بيروت ثم يَصدر بعد أقلّ من أسبوعين قرار دول مجلس التعاون «باعتبار ميليشيات حزب الله، بكل قادتها وفصائلها والتنظيمات التابعة لها والمنبثقة عنها، منظمة إرهابية».
وتنطلق الأوساط من هذه الوقائع لتؤكد أن ما بين لبنان ودول الخليج «أزمة عميقة» تفسّر الأبعاد التي باتت تتخذها أيّ «سقطات» لم تعُد قابلة للتفسير على أنها «خطأ فردي» يُقابَل «موْضعياً»، وهو ما يعكس الثقة المعدومة والخطوط المقطوعة بالسلطة الحالية، رغم ما عبّرت عنه «هبّة التضامن» العابرة للطوائف مع السعودية وأشقائها الخليجيين من غالبية الأحزاب والتي برزتْ منذ «المواقف الطائشة» لوهبة، وذلك بدليل أن لا الرئيس عون ولا حسان دياب رئيس حكومة تصريف الأعمال «غير المعترَف بها» سياسياً على المستوى الخليجي عموماً كانا قادرين على إطلاق «ديبلوماسية احتواء» مع قادة المملكة وأي دولة خليجية أخرى لا هاتفياً ولا عبر زيارة عاجِلة لوفد رسمي.
ومن هنا بقي الرصد لِما بعد تَنحّي وهبة وإذا كان سيطفئ «الحريق الديبلوماسي» الذي أحدثه أم سيبقى مطلوباً من لبنان ما هو أكثر، ودائماً من دون أي أوهام بأن احتواء هذه العاصفة يمكن إسقاطه على الواقع المأزوم لعلاقات بيروت مع دول الخليج كما مع غالبية العواصم التي «نفضت يدها» من مجمل الطبقة السياسية التي أمعنت في اقتياد البلاد إلى «الجحيم» سواء برميها في أتون الصراع الاقليمي الكبير وعزْلها عن الشرعيتين العربية والدولية أو بترْكها فريسة فساد قاتِل ومتمادٍ، وكلاهما مساران أوصلاها إلى الانهيار الكبير.
* أما النقطة الثانية التي أثارت علامات استفهام فتمثّلت في الإرباك السياسي الذي رافَقَ «اشتعال الأزمة» وتنحّي وهبة، خصوصاً لجهة اختيار البديل الذي سينوب عنه في تصريف الأعمال والذي برز على تخومه تجاذُب سياسي في ضوء إصرار فريق رئيس الجمهورية على أن يخلف الوزير «المعزول» آخَر من حصته، بعدما كان مرسوم تعيين الوزراء بالوكالة الذي أعقب تأليف حكومة دياب نصّ على أن وزير البيئة دميانوس قطار هو الذي سيتولى مهمات الخارجية في غياب الأصيل.
ومنذ تأكُّد خبر تسليم وهبة كتاباً تضمّن طلب إعفائه من مسؤولياته إلى كل من عون ودياب معلناً «خطوتي هذه هي من أجل مصلحة لبنان واللبنانيين، وأتمنى من صميم قلبي قفل هذا الموضوع بالكامل وأن يصبح من الماضي لتقوم العلاقات اللبنانية مع الدول العربية والدول الصديقة والشقيقة على أساس الاحترام المتبادل»، بدا أن ثمة شدّ حبال على الخلَف في ظل رفْض فريق عون تولي قطار هذه المهمة و«الحساسية» تجاهه منذ توزيره كونه من الأسماء التي تُطرح دائماً للرئاسة ناهيك عن اهتزاز علاقة قطّار بدياب بعد تَفَرُّده بالاستقالة في 9 اغسطس على وهج انفجار مرفأ بيروت أيّ عشية إعلان رئيس الوزراء استقالة حكومته، لـ «يختفي» بعدها قطّار عن أيّ دور في تصريف الأعمال.
وبعدما سادت معلومات عن أن لا صحة لاعتكاف قطار وأن ثمة تخبطاً في تعيين بديل غيره يتطلّب تعديل مرسوم تكليف الوزراء بالوكالة (وهو ما حصل)، رسا الخيار على وزيرة الدفاع زينة عكر التي كانت تردّدت بقبول المهمة في أعقاب تقارير ذكرت أن باسيل كان يفضّل تعيين الوزيرة غادة شريم.
ولم يقلّ دلالة في التشظّيات السياسية لبنانياً لأزمة تصريحات وهبة ربْطَها بالخطوة المباغتة التي قام بها عون بتوجيهه في عزّ هذه الأزمة رسالة غير مسبوقة الى البرلمان فُسَّرتْ على أنها انطوتْ ضمنياً على دعوة لنزْع التكليف عن الرئيس المكلف سعد الحريري.
وبمعزل عن قابلية هذه الرسالة للترجمة أم لا (وهي غير قابلة لاعتبارات دستورية قبل السياسية)، فثمة مَن ربط توقيتها بمحاولة إشاحة النظر عن «قنبلة» وهبة وارتداداتها على عون وفريقه، فيما لم يتوانَ البعض الآخَر عن التساؤل إذا كان هذا الفريق يسعى على وقع «إقالة الوزير المستقيل» لقطْف ثمارها والاستفادة من وهجها للمضي في اللعب على وَتَر ما يشيعه من عدم وجود غطاء سعودي للحريري للإمعان في إحراجه لإخراجه تحقيقاً لغاية قديمة - جديدة كان عبّر عنها رئيس الجمهورية برسالة - سابقة خاطَبَ بها النواب عشية استشاراتِ تكليف الحريري ووضع فيها «فيتو» على هذه التسمية.