…وفي أن الاحتلال كاد يعود؟!

من غير المستغرب أن يستعيد اللبنانيون ذاكرة هلعة مذعورة ومسكونة بكل كوابيس الحروب والاحتلالات ما دامت أقدارهم المشؤومة لا "تسمح" لهم من الحياة العادية الطبيعية إلا بما يوازي "هدنات" غالباً لا تستقيم الواحدة منها أكثر من عقد واحد فقط. في تاريخ لبنان القديم والحديث، يصنّف البلد في أفضل المعايير كمثل البلدان الواقعة عند فوالق زلزالية ثابتة متأصّلة، بما يوجب هندسات شاملة تجعل التطبّع مع الزلازل مسألة تكوينية، على غرار اليابان. لبنان المفطور على زلازل الاضطرابات والفتن والحروب والاحتلالات بمعيار انهيار كل عقد أو أكثر بقليل، يقف اليوم تماماً عند إثبات هذه المعادلة الجهنمية من حيث لا يودّ معظمنا أن يصدق الكابوس.

"بمقياس" 100 شهيد و200 جريح يومياً على الأقل، بعد الانطلاقة الدموية التي أسقطت 500 شهيد في أول أيام الاجتياح الإسرائيلي الجوي، عاد لبنان يعيش الجحيم الحربي فاقداً القدرة على وقف هذا القدر القاتل بلا بوصلة ترشده الى أيّ توقعات أو استقراء دقيق وحقيقي لما يمكن أن يفضي به الاعصار الدموي المتدحرج. والأسوأ من السقوط مجدداً ضحية حرب ظلت "نخب" السلطة والسياسة والإعلام وجيش المراقبين والمحللين على الشاشات يتبارون طويلاً في استبعادها، هو أننا نستعيد في اللحظة الراهنة، السقطة نفسها بالمضيّ قدماً في الوهم الذي يقول أن اجتياحاً برياً إسرائيلياً هو مستبعد أيضاً فيما الوقائع الجادة لا تحتاج الى "عباقرة" في استقراء مسار الاجتياح الإسرائيلي الآخذ في الانقضاض على لبنان وحتى بهدنة عابرة لا ندري كم تصمد، وما بعدها إن صمدت.

قد يكون من التسرّع والرعونة إطلاق أحكام مسبقة قاطعة في أي اتجاه من الاتجاهات الهدنوية أو الحربية لأن عامل التضخيم والتهويل يبقى من خدع الحرب التاريخية الثابتة. ومع ذلك فإن اللهو في الرهان وحده على ما قد تحمله الجهود الديبلوماسية، سواء في نيويورك أو "عبر" بيروت، لن يكفي إطلاقاً لوضع اللبنانيين أمام حقيقة أن لبنان لا يزال أمام مصير مخيف قد تندفع معه إسرائيل في أيّ وقت الى ترجمة تهديداتها وحشود فرقها الاقتحامية باحتلال جزء من الجنوب مهما تكن مقاومة "حزب الله" لها. هذا الحاصل منذ انفجار حرب 7 تشرين الأول الماضي في غزة و8 منه في الجنوب اللبناني، يتيح استشراف اللامتوقع. وإن كان معظم اللبنانيين يفركون عيونهم غير مصدّقين أن لبنان يعود القهقرى الى حقبات الاحتلالات ومسلسلات وقف النار والهدنات وتقاذف بلدهم تحت سنابك حروب الآخرين، فذلك لأن الحقيقة المفجعة تبقى في فقدان دولة الحماية التي تحمي الثغور والحدود من داخل وخارج ولا تكون سلطة خارج سلطتها وقرار خارج قرارها.

حصل الحاصل ووقعت الواقعة وسقطت الدولة سقطتها القاتلة الأخيرة الآن، فلماذا لا يضعون الناس أمام الاحتمالات الأخطر؟ "الوجبة" اليومية لإسرائيل في حربها المتدحرجة مئات الشهداء والجرحى وعشرات ألوف النازحين، وها هي بلدات الجنوب والبقاع الشمالي وما أدرجته إسرائيل على بنك الأهداف تدك دكّاً تدميرياً دموياً هستيرياً فوق رؤوس العائلات في مجزرة على مقياس غزة وقبلها وبعدها كل مقاييس الجرائم الجماعية "المحرمة" دولياً، فيما الدول لم تتفق إلا على نداء أو وقف "مرجوّ" للنار. تبعاً لذلك لا نملك إلا السؤال "الساذج": كيف للدولة أن توقف الاحتلال ما لم تبدأ بإعلان نفير دراماتيكي حاسم باستعادة السلطة الشرعية كاملة على الحدود؟