المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ماريان زوين
السبت 26 نيسان 2025 06:57:03
في صباح وداعه الأخير، ينحني العالم بخشوع لروح رجل اختار أن يكون "خادماً للرجاء"، هو الذي لم يكتف بقراءة الكتاب المقدّس أمام المؤمنين بل عاش آياته: "من أراد أن يكون كبيراً فيكم فليكن خادماً لكم". هكذا قاد الكنيسة أوّل بابا يسوعي، ومن عمق الجراح الإنسانية، طبع حبريته بشكل مختلف.
يُشيَّع اليوم البابا فرنسيس فيما تبقى مواقفه وأقواله تتردد في الذاكرة. البابا الذي انتخب عام 2013، عايش حروباً في العالم، ووقف إلى جانب الفقير والمظلوم، كسر بروتوكولات، تقرّب من الشباب وحضّ على تخطّي الخصومات وعدم الحكم على الآخر، واللافت في حبريّته أكثر من محطّة أو موقف، تجلّت فيها رحمته، وحسّه الفكاهي وقربه من الشّعب.
منذ الأيام الأولى لحبريته، خطّ البابا سطوراً غير مألوفة في دفتر البابوية. ففي خميس الأسرار 2013، غسل وقبَّل أقدام 12 سجيناً، من بينهم شابتان ومسلمان، في مشهد رمزي للرحمة والتواضع وكسر القيود الطقسية. ولم تمضِ سنوات حتى كرَّر الركوع ذاته، لا أمام مذبح بل أمام زعماء جنوب السودان، وهنا دعا إلى التسامح والسلام.
فرنسيس لم يكن مجرد رأسٍ للكنيسة الكاثوليكية، بل كان صوتاً للعالم المنكوب. في 25 أيار 2014، في خلال زيارته بيت لحم، توقف فجأة عند الجدار الفاصل، رفع صلاة صامتة، وجمع لاحقاً رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز.
في أبو ظبي 2019، أصبح أول بابا تطأ قدماه أراضي شبه الجزيرة العربية، حيث وقّع "وثيقة الأخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر. وفي نهاية الزيارة، اخترقت طفلة الحراسة، فانحنى كجد عظيم ولمس رأسها. وفي العراق عام 2021، التقى المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني، في لحظة حوارية بين الأديان غير مسبوقة، وفي عربة غولف بين الركام في الموصل، جلس صامتاً، مستمعاً إلى حكايات مسيحيين ومسلمين عاشوا الاضطهاد والترهيب.
وفي 8 كانون الأول 2022، خلال صلاة العذراء التقليدية في روما، انهمرت دموعه عندما تذكر الشعب الأوكراني قائلاً: "أيتها العذراء الطاهرة، كنت أتمنى أن أقدّم لك اليوم شكر الشعب الأوكراني... بدلاً من ذلك، أعود أحمل توسّلات الأطفال، الشيوخ، الآباء، والأمهات... تلك الأرض المعذبة. لكننا نعلم أنك معهم، كما كنتِ تحت صليب ابنك".
أما في كينشاسا عام 2023، فقد دعا أكثر من 65 ألف شاب إلى بناء مستقبل خالٍ من الفساد والتفرقة العرقية واللاثقة التي غذّت العديد من النزاعات الدامية في أفريقيا. وقاد الحشود بهتاف ارتجالي باللغة الفرنسية.
في الفاتيكان عام 2024، استقبل وفداً من أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت، واستمع شخصياً لألم كل فرد، ومن كراسي الحضور اتّخذ بينهم صورة تذكاريّة كاسراً بذلك القواعد البروتوكوليّة، من دون أن ينسى أن يحمّل أمانة المتابعة العمليّة للقضيّة لأعلى مسؤول في دولته.
هو لم يتابع الأزمات والحروب والسياسة فحسب، بل كان البابا القريب من البسطاء، من الأطفال والشباب، من الضاحكين والمرهقين. في لقاء مع فريق "هارلم غلوبتروترز" عام 2015، حاول تدوير الكرة على إصبعه وسط ضحكات الحاضرين. وفي الطائرة إلى المكسيك، تلقى قبعة السومبريرو ومازح الصحافيين. التقى لاعبي NBA، وصافح "سبايدرمان" الذي يزور الأطفال المرضى، وأهدى طفلاً صغيراً قبعته البابوية.
وفي أحد اللقاءات، عندما سأله طالب مكسيكي عن ألم ركبته، قال مازحاً: "تحتاج إلى القليل من التيكيلا!"، فضجّ الجمهور بالضحك ومن بينهم الإكليروس.
أحبّ الطبيعة والكواكب، مداعباً شبل نمر في الفاتيكان، متحدثاً بروحانية مع رواد الفضاء وشارحاً عن أهميّة حماية الكوكب، ومتسلماً منهم بدلة فضائية تحمل اسمه "خورخي برغوليو"، وعلم الأرجنتين، ورموز الفاتيكان. فهو آمن أن الأرض هي بيت مشترك، وكلنا رعاة له.
اليوم، لا يُشيَّع البابا فرنسيس كرجل دولة أو زعيم طائفة، بل كضمير عالمي. هو الذي جسّد أهميّة أن يلبس الكرسي الرسولي ثوب الإنسان لا ثوباً آخر.
ما أعيد التذكير به في هذا المقال 20 موقفاً من مئات، لم تكن فقط مفاجئة، بل صادقة أيضاً.
يودّعه العالم على رجاء أن يبقى نوره يهدي من يأتي بعده، وأن يظل صوت الضمير لوجوه تبحث عن الكنيسة الفعليّة للمسيح في قلب الضجيج، الثرثرة، والتمجيد الفاني.