50 عاماً من الوعود لتنظيم الدواء ... انها "جريمة صحية"

لا تختلف المطالبة اليوم بضرورة تفعيل الوكالة الوطنية للدواء عن تلك التي كانت في السبعينيات يوم تقرر إنشاء "المكتب الوطني للدواء" في 17 أيار 1972 من أجل استيراد الأدوية للجهات الضامنة وبيعها إلى المرضى مباشرة.

لم يمضِ وقت على قرار إنشاء هذا المكتب حتى اندلعت الحرب الأهلية التي أوقعت البلد في حالة فوضى. واستغل كارتيل الدواء في تلك الحقبة الأوضاع الأمنية ليشهد السوق الدوائي ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.

في 1983/1/13 صدر قرار جديد يقضي بإلغاء قانون إنشاء المكتب الوطني للأدوية والاستعاضة عنه بأحكام جديدة وتضمنت أهم بنودها أن "المكتب يخضع لرقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي ويتألف من مجلس تنفيذي وهيئة علميّة".

لاقى هذا القرار ترحيباً كبيراً بعد أن علت الصرخة بسبب غلاء الأسعار، إلا أن لا شيء تغيّر حتى العام 1993، عندما صدر مرسوم يحمل الرقم 3839 ووقعه وزير الصحة آنذاك مروان حمادة وقضى بتعيين الدكتور قاسم نعمان حمادة رئيساً للمجلس التنفيذي للمكتب الوطني للأدوية.

وبقيت الشعارات والنيّة موجودة في إنشاء هذا المكتب وتعيين أعضاء حتى العام 1995، وتقرر رصد 30 مليار ليرة لبنانية لتأسيس مكتب الدواء الذي كان يُتوقع منه تخفيض الفاتورة الدوائية بنسبة تتراوح بين 30 إلى 40 في المئة.

بقيت الآمال معلّقة والسلفات المالية "ماشية". فـ"سنة 1996 ستكون سنة الثورة الحقيقية في قطاع الدواء. سنة قيام المكتب الوطني للأدوية، هذا الحلم القديم للطبقات العاملة وللمجتمع اللبناني". بهذه العبارة أعلن وزير الصحة مروان حمادة وضع اللمسات الأخيرة على انطلاق المكتب. ومع ذلك لم ينطلق. إلا أن رئيس المكتب كان يحصل على سلف مالية على راتبه بلغت حتى العام 1996 نحو 195 مليون ليرة.

هذه السلفات الرئيسية فجرّت الخلاف بين أعضاء المكتب. وفي 24 تموز وضعت الدوائر المالية المختصة بوزارة المال تقريراً تناول الوضع المالي للمكتب الوطني للدواء. وفي العام 1999 اتحذ قرار بتوقيف قاسم حمادة بتهم هدر المال العام والاختلاس ومطالبته بإعادة 261 مليون ليرة إلى صندوق المكتب.

المقصود من إعادة ذكر هذه المحطات التاريخية تسليط الضوء على المسار البطيء والملتبس والخلافات السياسية التي تحول دون إنشاء المكتب الذي استغرق انشاؤه أكثر من 15 عاماً على الأقل. منذ العام 1998 حتى العام 2024 بقي "المكتب الوطني للأدوية" من دون تفعيل وصدر قانون جديد بإنشاء الوكالة الوطنية للدواء وبقيت المراسيم حبراً على ورق والسوق الدوائي في يد المحتكرين والسلطة وأصحاب النفوذ.

أمام أزمة الدواء المهرّب والمغشوش أو المقطوع التي نشهدها في لبنان حيث تخرج إلى العلن من وقت إلى آخر فضيحة جديدة تُذكرنا بفضائح وفساد البعض في هذا القطاع الصحي، تساءل رئيس حملة "الصحة حق وكرامة" الدكتور اسماعيل سكرية عن سبب عدم إحياء دور المكتب الوطني للدواء الذي جرى اغتياله عام 1998 والذي من شأنه خفض فاتورة الدواء الى النصف؟

يفرض القانون 549/1996 في مادته الأولى على الجهات الضامنة شراء الأدوية من المكتب الوطني والتي حكما ستكون كلفة استيرادها وبيعها أقل في حال تمت من جهة رسمية لا تبغي الربح، وهذا ما ينعكس على الكلفة ويوفر على المواطن.

لكن في لبنان يبقى القانون قانوناً وتبقى المخالفات والمحاصصات والاستنسابية هي الأقوى على أرض الواقع.

اليوم نُعيد تكرار هذا السؤال بصيغة أخرى متسائلين عن السبب في عدم تفعيل الوكالة الوطنية للدواء التي أُنشئت في العام 2021 ؟

يستهل سكرية حديثه بحادثة حصلت مع أحد مرضاه الذي يحمل "بطاقة معوّق" "التي سجلت موقفاً ضدها واعتبرتها "دون قيمة تأمينية وإنما مجرد تعريف شخصي"، لم تسعفه ولم تعترف أي مستشفى بها".

تقصّد سكرية الانطلاق من هذا المثال للقول "إننا في لبنان نصدر قانون الحماية الاجتماعية أو قانون البطاقة الصحية أو قانون الوكالة الوطنية للدواء، ولكن نفتقر إلى تطبيقها على أرض الواقع. فالعبرة بالتطبيق وليس بإصدار القوانين".

أما بالنسبة إلى عضو لجنة الصحة النيابية وكتلة "التنمية والتحرير" النائب فادي علامة فهو أكد أن "إقرار قانون الوكالة الوطنية للدواء والبيانات الغذائية التي عملت عليها لجنة الصحة النيابية منذ أكثر من عامين في انتظار المراسيم التطبيقية من الحكومة مجتمعة وعند وزير الصحة". ولا يمكن المضي بهذه الهيئة قبل تشكيل حكومة لإجراء التعيينات الإدارية لها وفق القانون.

وعن تخوفه من أن يصبح مصير هذه الوكالة شبيهاً بمصير المكتب الوطني للأدوية، يرفض علامة المقارنة بينهما، وبرأيه أن "الوكالة لها نظامها الخاص وطبيعة عمل مختلفة بكل آلياته ومعاييره. وبالتالي يعتبر هذا القانون إصلاحياً بامتياز لتنظيم القطاع الدوائي والمتممات الغذائية ونأمل أن يرى النور بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة".

في حين يقول سكرية: "تكفي العودة إلى المحاولات السابقة التي قام بها أكثر من نائب ووزير بغية إنصاف المواطن وتأمين الدواء بسعر مقبول وفشلت جميعها"، وقد "بدأت في العام 1960 مع النائب فريد جبران الذي تقدم بقانون يشرك الدولة في تنظيم استيراد الدواء، إلا أن النواب امتنعوا عن الحضور. وكذلك الأمر مع تجربة وزير الصحة إميل بيطار في العام 1971 الذي مورست عليه الضغوط وانتهت بتقديم استقالته بعدما فشل في مواجهة كارتيلات الدواء".

حسمها سكرية بقوله: "الإصلاحات تسقط دائماً في مجلس النواب إذ أسقطت تجربة المكتب الوطني للدواء في العام 1998".

ما واكبه سكرية من فوضى وتلاعب في الأسعار ونوعية الجودة يلمسه اليوم نقيب الصيادلة جو سلوم خصوصاً بعد الأزمة الإقتصادية. وانطلاقاً من فضيحة المتمم الغذائي المنتهي الصلاحية، أعاد سلوم المطالبة "بالإفراج عن المراسيم التطبيقية للوكالة الوطنية للدواء دون تأخير وبعيداً عن التجاذبات وتضارب المصالح".

مهمة هذه الوكالة وفق سلوم "تسجيل الدواء وتسعيره، مراقبة الأدوية في الأسواق ومدى تطبيق السياسة الدوائية منعاً للاحتكار وللحفاظ على جودة الدواء".


قد يكون وصف سلوم ما يجري في القطاع الدوائي بـ"الجريمة الصحية" أفضل توصيف للواقع اليوم، وهذا ما دفعه إلى مطالبة الحكومة "بتطبيق القانون فوراً وإنشاء الوكالة الوطنية للدواء التي تعتبر مؤسسة مستقلة تحفظ حقوق المرضى".

أما عن الأسباب التي تحول دون تفعيل الوكالة الوطنية للدواء، فيرى سكرية أن "البداية تكون أولاً بإنشاء المختبر المركزي للدواء قبل الحديث عن الوكالة الوطنية للدواء. وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لا يوجد أي مختبر جامعي في لبنان مرخص لإجراء كامل الفحوصات الدوائية. وعليه، لا يمكن الحديث عن أي وكالة قبل تفعيل المختبر المركزي للدواء الذي يعتبر صمام الأمان لفحص الدواء والغذاء. ومن بعدها يأتي دور الوكالة الوطنية للدواء للموافقة على الدواء ومتابعة مساره".

ويعترف أن "هناك قراراً بعدم تفعيل المختبر المركزي للدواء الذي أنشئ بقانون عام 1957 لأنه سيفضح السوق والأمن الدوائي المفقود وستتضرر مصالح كثيرة وتؤدي إلى خسائر مادية ضخمة".