المصدر: الحرة
الثلاثاء 1 أيلول 2020 17:18:01
في وقت يتطلع اللبنانيون إلى صدور نتائج واضحة وشفافة ومقنعة للتحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت وأسبابه والمسؤولين عن الكارثة التي أسفرت عن عشرات القتلى وخلفت دمارا واسعا في بيروت، خرج تقرير صحفي إلى الرأي العام اللبناني يتحدث عن توسع في التحقيق مع أحد الحدادين الموقوفين في قضية، وذلك بسبب شبهات بشأن ارتباطه بتنظيم متشدد.
التقرير الذي نشرته صحيفة "الأخبار"، المقربة من حزب الله، أثار موجة تعليقات غاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما وأنه ينقل من تحقيقات الأجهزة الأمنية اعتمادهم على هاتف الحدّاد المشتبه فيه الذي "بيّن أنّه كان قد أجرى بحثاً في وقت سابق عن المرفأ وعن رئيس مصلحة استثمار المرفأ، وكشف عن وجود اهتمام بالجماعات المتشددة، مع نفي ظهور أي ارتباط للمشتبه فيه بأي تنظيم".
أول ما استعاده اللبنانيون من ذاكرتهم بعد هذه الرواية، كان رواية "أبو عدس" الذي ظهر في فيديو مفبرك يزعم أنه الانتحاري الذي اغتال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري عام 2005، وهو ما ظهر زيفه في حينها وتبين أنه فبركة أمنية لتضليل التحقيق ثم عادت المحكمة الدولية لتؤكد زيف القصة في حكمها النهائي، بعدما تعذر أصلاً العثور على أي دليل او جثة تعود إلى أبو عدس.
رواية أبو عدس باتت بالنسبة لبنانيين كثر نهجا معتمدا من قبل السلطة الحاكمة والأجهزة الأمنية وميليشيات حزب الله، للتخويف من الإرهاب والتغطية على المرتكبين الحقيقيين، بحسب التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما ساهم في تقريب رواية أبو عدس من رواية "حداد المرفأ" كان الصورة التي انتشرت بعد ساعات على الانفجار، وتظهر الحدادين الثلاثة وهم يقومون بأعمال عند مدخل العنبر 12 في مرفأ بيروت، دون تحديد مصدرها أو من التقطها، لتعود وتلاقي انتشاراً واسعاً بالتزامن مع الرواية الأمنية المنشورة في صحيفة "الأخبار"، وهو ما يشبه بالشكل والأهداف فيديو أبو عدس الذي اجتاح الوسائل الإعلامية عام 2005 وحرف مسار التحقيق.
يرى الأكاديمي والناشط السياسي، مكرم رباح، أن هذا النوع من التسريبات بالأسلوب والقنوات المستخدمة، هو استمرار لنهج تعتمده الأجهزة الأمنية مع كل ملف أمني يطرأ على الساحة، وتحاول من خلاله التأسيس لسردية تخدم هذه الأجهزة أو تفيد مشغليها سياسياً ثم تعممها عبر الإعلام كما حصل مع الممثل المسرحي زياد عيتاني. في الوقت نفسه فإن هذه التسريبات تفضح سرية التحقيق وتضرب الثقة بالقضاء وبالأجهزة الأمنية بغض النظر عن الرواية المسربة وهذا مخالف للقانون ويضر بالتحقيق.
ويستذكر الصحفي والخبير بالجماعات المتشددة، فداء عيتاني، رواية الأجهزة الأمنية عام 2015 حينما تحدثت عن وجود إرهابيين منخرطين في صفوف المتظاهرين يحضرون لأعمال أمنية تخريبية من أجل تفجير الوضع في لبنان، تلك الرواية كانت مسؤولة عن حرف أنظار اللبنانيين عن مشكلة النفايات التي تكدست في الشوارع حينها، وأوصلت إلى قلق الناس من المشاركة في التظاهرات وإفقاد الانتفاضة الشعبية زخمها، وبالتالي حققت مراد المنظومة الحاكمة في لبنان.
عيتاني في حديثه مع موقع "الحرة" يعتبر أن "العهد، ومنذ أن وصل، لم يقدم إلا حل واحد من اثنين، إما ادعاء الإنجازات والكذب على اللبنانيين، وإما اللجوء إلى الحل الأمني والقمع لكل من يحملهم المسؤولية ويعارضهم، وهذه الرواية تأتي اليوم في زمن إعلان حال طوارئ بشكل مخالف للدستور، والهدف من كل ذلك أولا تخويف المجتمع من سيناريو الإرهاب، تمهيداً لقمع كل من يعارض رواياتهم ووضعه في إطار التغطية على "إرهابيين" وبالنتيجة تكون الشبهات أبعدت عن المسؤولين الحقيقيين، ورواية الإرهابيين قد تنجح في تأمين احتقان طائفي ضروري ومفيد بالنسبة لهذه السلطة من أجل المحافظة على وجودها."
يصف رباح هذه التسريبات بالمكررة والقيمون عليها بأنهم "ليسوا خلاقين"، مع أن ذلك لا يعني عدم وجود خطر إرهابي أو تهديد، ولكن طريقة التسريب وتوقيته مفضوح لاسيما وأنها ليست المرة الأولى لجريدة الأخبار. الأخطر وسط كل ذلك أن أمين عام حزب الله حسن نصر الله كان قد تحدث بالفعل عن محاولة لإعادة خلق داعش، ما يدفع للشك بهذه الرواية والبحث عن أسباب نشرها في وقت يبحث فيه حزب الله عن مخرج يلتحق فيه بالمبادرة الفرنسية، ويدفع بالشكوك عنه، وبالتالي تمثل هذه السردية قارب نجاة للأشخاص المستعدين للانضمام لها وتبنيها.
من جهته، يرى العميد المتقاعد الخبير العسكري، إلياس حنا، أن فرضية الإرهاب لا يمكن أن تقنعه أو تقنع باقي اللبنانيين، لافتا إلى أن "الإرهابي لن ينتظر إلقاء القبض عليه إن كان فعلا هو المنفذ، فإما أن يكون انتحارياً وإما أن يهرب بعد تنفيذ العملية، وهذا ما لم يحصل"، مضيفاً أن العمال الذين قاموا بعمليات التلحيم قبل الانفجار، تم التعاقد معهم من قبل القيمين على المرفأ وليسوا هم من عرضوا خدماتهم أو دخلوا المرفأ بطريقة مريبة بل جرى استقدامهم بكامل إرادة القيمين على الأعمال والصيانة في المرفأ.
يضع حنا هذه الرواية في إطار "التبرير" لحجم الفساد والإهمال والتقصير الذي أدى إلى هذه الكارثة في المرفأ، لافتا إلى أن "التحقيقات لم تصل حتى الآن إلى المالك الحقيقي لهذه المواد وسبب بقاءها كل هذه المدة بظروف تخزين سيئة وهذا أساس في أي تحقيق، في حين أن الكلام عن متشدد هنا أو إرهاب هناك ليس سوى شماعة للتغطية على المسؤولين الحقيقيين وأشخاص غير مناسبين للوظائف التي يشغلونها."
رؤية الخبير العسكري تتلاقى ورؤية عيتاني الذي يرى أن "هذه الرواية تأتي في سياق متبع بدأ مع جبران باسيل يفضي إلى طرح سؤال "كيف انفجرت المواد" بدلاً من طرح السؤال المفيد للتحقيق ولتحديد المسؤوليات الحقيقية، وهو "كيف أتت هذه المواد ولمن وصلت ولماذا بقيت كل هذه المدة، هل انفجرت الكمية كاملة ام كانت ناقصة؟" هذه الأسئلة من شأنها أن تقدم مسؤولين عن كل تفصيل، أما باقي الأسئلة والفرضيات فإنها تأتي اليوم سابقة للتحقيق".
عيتاني استبعد فرضية الإرهاب من خلال معرفته ومتابعته لنشاطات التنظيمات الإرهابية، مؤكداً أن "بيروت لم تكن ضمن أهداف التنظيمات المتشددة في المرحلة الأخيرة، ومن المعروف اليوم أين تركز هذه المجموعات نشاطاتها ولأي أهداف، ليس من ضمنها مرفأ بيروت والمدينة".
ويؤكد أن "هذا ليس أسلوب التنظيمات المتشددة، أي أن تتكل على تجمع كبير من الصدف الذي أوصل القيمين على المرفأ أن يختاروا بأنفسهم عددا من العمال من بينهم الإرهابي المفترض، ثم يدخلونه بالصدفة إلى العنبر 12 دون غيره الذي يحتوي على المواد المتفجرة، ليفجره عبر تلحيم الباب وهو أمر يحتاج إلى تدقيق في امكانيته أصلا، هذه رواية سخيفة والتنظيمات المتشددة لا تعمل بهذه الأساليب البسيطة ولا يتكل العمل الإرهابي على الصدف، ثم أنه لا دليل مطلقاً على كل هذا الكلام غير الموثوق والمدعوم ببراهين".
بحسب حنّا "يمكن لعملية تلحيم أن تؤدي إلى حريق يكون بمثابة الشعلة التي فجرت نيترات الأمونيوم"، لكن العامل الأهم كان طريقة تخزين هذه المواد مكشوفة للهواء، ما أدى إلى تفاعلها مع الهواء وتفكك ذراتها ما سهل انفجارها، وهذا ما يمكن أن يصل إلى انفجارها بوجود عمليات تلحيم أو بدونها. أما السؤال الثاني قبل التطرق إلى عمليات التلحيم هو حول باقي المواد التي كانت بالقرب من نيترات الأمونيوم والتي يمكن أن تكون بمثابة الصاعق الذي أدى إلى توزيع شرارة التفجير على كامل العنبر".
عيتاني يتوقف عند أول إعلان لنوعية المواد جرى التراجع عنه، من قبل اللواء عباس إبراهيم في الساعات الأولى بعد الانفجار، إذ نقل عنه تصريح إعلامي يكشف أنها نيترات الأمونيوم، ثم صدر نفي عن إبراهيم للتصريح الإعلامي فقط دون توضيح للأسباب مع أنه يفترض أن المعلومة التي قدمها صحيحة حول نوعية المواد، "منذ ذلك الحين والأجهزة الأمنية تمسك بأدق تفاصيل التحقيق وباتت المصدر الأول والأخير للمعلومة حول انفجار المرفأ، حتى أنها غطت على نتائج التحقيقات، وهو ما فعله الجيش اللبناني، حين أعلن العثور على حمض الهيدريك، (25 مستوعباً) وهو ما تبين أنه الاسم العلمي للمياه، واستخدام هذا المصطلح والإعلان عن العثور عليه ما هو إلا تغطية على المواد الحقيقية التي عثر عليها."
ويختم العميد الياس حنا، معتبراً أنه حتى لو صحت فرضية المتشدد والعمل الإرهابي، لا يزال الفشل من نصيب الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية التي وفرت بالدرجة الأولى كامل لوازم الانفجار من جهة، ومن جهة أخرى فقد فشلت في العمل الأمني الذي يتطلب حربا استباقية على الإرهاب، أي كشف العملية قبل حصولها، رغم أن الفرضية مستبعدة تماماً.