الإنهيار: الطلاق بين الدولة والسلطة

كتب جورج صدقة في الجمهورية: للمرة الثانية يسلّمني مختار القرية إخراج قيدي العائلي وفيه أخطاء بأسماء أولادي وتاريخ ولادتهم. في المرة الاولى اعتبرت الأمر خطأ عابراً. عندما تكرّر الخطأ سألت المختار كيف يمكن أن تحمل وثيقة رسمية مثل إخراج القيد هذه الأخطاء، لاسيما وأنّها تقوم مقام الهوية؟ كان جواب المختار أنّ سجلات القيود في دائرة النفوس، وهي سجلات ورقية، باتت مفتتة ومهترئة، الى درجة أنّه بات يصعب قراءتها. وطلب مني إحضار سجل قيد قديم، كي يستطيع الموظّف أن يعتمد عليه في تحضير قيد جديد.

هذا الاهتراء ليس حال دوائر النفوس فقط، انّها حال البلد عموماً الذي وصل الى مرحلة متقدّمة من التفكّك والانهيار. دوائر النفوس هي النموذج الذي يمكننا تعميمه على وضع باقي الإدارات العامة. فكيف يمكن لدولة أن تتفكّك مؤسساتها الى هذه الدرجة؟ كيف لم تتمّ معالجة الأمور من قبل طوال سنوات وسنوات؟ كيف حصل هذا الانهيار في المؤسسات من دون أن تعمد السلطة الى إصلاحها أو تلافي انهيارها؟ أليس هناك من يعتبر نفسه مسؤولاً أو معنيّاً بهذه المؤسسات؟ فلماذا تغاضى القيّمون على القطاع العام عن مهمة مواكبته وتركوا المؤسسات الرسمية تتهاوى الواحدة بعد الاخرى من دون أن يحاولوا حمايتها أو إصلاحها؟

ينطبق هذا على قطاعات الماء والكهرباء والنقل، التي باتت شبكاتها في حال اهتراء وغيرها وغيرها. كما يمكن تلمّس هذا الاهتراء في كل مرة نقصد دائرة عامة لإجراء معاملة. هذا الاهتراء ليس وليد الساعة، انّه تراكم العقود الأربعة الأخيرة، بعدما وقع طلاق بين الدولة العميقة والسلطة الحاكمة. الدولة العميقة التقليدية المترسّخة في ضمير المواطن والموظف، راحت تتهاوى أمام وضع اليد على الإدارات من جانب السلطة الحاكمة. اذ بات الممسكون بالسلطة يسعون أولاً لمصلحتهم الشخصية. ساد الشعور عند هؤلاء انّهم في السلطة ليستفيدوا منها وليس لخدمة الناس. سقط مفهوم الخدمة العامة التي تقوم الدولة على أساسه والذي هو علّة وجود الإدارة. امتلأت المؤسسات العامة بالمحاسيب والأزلام تحت شعار «استفيدوا».

بات يصعب إجراء معاملة من دون رشوة الموظف. ويروي البعض انّ تسديد فواتيرهم أو ضرائبهم هي أيضاً باتت تحتاج لـ»شوفة خاطر» الموظف. هذه الحال استدعت إنشاء وزارة لمحاربة الفساد، لكنها كانت أضعف من الفاسدين الذين عششوا في الإدارات. بات المواطن حذراً من إدارة كان دورها في الأساس أن تخدمه. لم يعد يشعر انّ الدولة دولته وانّ الإدارة ادارته. بات اللبناني في حال طلاق مع السلطة والمؤسسات، وكأننا عدنا الى العصر العثماني، حين كانت الإدارة تفرض جزية على المواطن وتظلمه، وكان الشعب ينظر اليها على أنّها مؤسسات عدوة له.

وتوسّع التفكّك على رأس هرم المؤسسات، فها هي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تتخبّط في أدوارها وفي ادارتها شؤون البلد. فقدت مؤسساتنا مفهوم الديمقراطية. لا مداورة حقيقية للسلطة انما شكلية. اختلطت السلطتان التنفيذية والتشريعية في سلطة واحدة، تمسك بمجمل القرار بدلاً من أن تكونا متوازيتين، كي تمارس السلطة التشريعية دورها الرقابي. السلطة القضائية تتعرّض لكل التدخّلات، ويكاد لا يمرّ يوم من دون أن تتعرّض هذه السلطة للنقد والاتهام بغية تفكيكها. السلطات الرقابية المولجة مراقبة أداء القطاع العام سقطت وأُلحقت بالسلطات النافذة.

 متى بدأ هذا الفراق بين الدولة العميقة والسلطة الحاكمة؟ حتى عام 1975 كان لبنان في مطلع العالم العربي تقدّماً، وكانت بيروت نموذجاً للانفتاح وللخدمات على أنواعها، ونموذجاً في تداول السلطة. كانت الإدارة تعمل بشكل سليم. كانت بداية التحوّل مع وضع اليد السورية على البلاد. راحت المؤسسات تتهاوى الواحدة بعد الأخرى وتغيّر جوهر السلطة.

بات رئيس الجمهورية يُنتخب برفع الايدي، والنواب «يُنتخبون» بإيحاءات من عنجر، والوزراء موظفون غبّ الطلب. لم تعد الكفاءة والنزاهة معيار التعيين. امتلأت الإدارة بالأزلام. تمّ تخطّي دور الهيئات الرقابية ومجلس الخدمة المدنية. فقدت الإدارة رجالاتها الذين كانوا أمناء على اداراتهم وحريصين على مهامهم. بات شعار الموظفين الجدد الاستفادة من الفرصة السانحة ومن الوظيفة لجني المال.

وانطبق ذلك على مستوى وزارات ومدراء عامين وغيرهم من مفاتيح الإدارة. بات لكل قصره وسياراته الفخمة، وبات مقياس أهميتهم مدى غناهم ومظاهرهم الفاخرة. ليس المهم كيف يجنون المال، كل الطرق مسموحة، بما فيها سرقة أموال المودعين من المصارف وسرقة أموال الخزينة العامة. لم يعد الهمّ في حسن تسيير المرفق العام بل في كيفية الاستفادة منه.

نموذج آخر صارخ يتجسّد في ملف إدارة النفايات التي غمرت لبنان، وباتت صور أكياس النفايات البيضاء الممتدة كنهر في بيروت، في مقدمة نشرات الاخبار العالمية. لبنان السياحة والجمال بات بلد النفايات. كل هذا لم يحرّك المسؤولين لإيجاد حل نهائي لهذه المشكلة، بل بقيت النفايات باباً للصفقات. وبعض متعهّدي جمع النفايات كانوا يضيفون الماء عليها لزيادة وزنها لمزيد من الأرباح يتقاسمونها مع أرباب السلطة.

هل نطلب من إدارة عامة أن تضع خططاً لمستقبل الشباب اللبناني، أو ان تحافظ على مقدّرات البلاد وعلى املاكها العامة ومداخيلها، حين يكون همّها الأول جني المال بأي طريقة كانت؟ هل نستغرب أن تكون مالية الدولة أفلست، وان يكون المصرف المركزي في وضع الإفلاس؟ هل نستغرب الانهيار حين تصبح مصلحة المسؤول الشخصية أهم من مصير شعب!

التحدّي أمام اللبنانيين اليوم يمكن اختصاره بسؤال بسيط: كيف نتحرّر من سلطة أسقطت الدولة وباتت على طلاق مع شعبها؟ وكيف نعيد بناء سلطة يكون هدفها الشأن العام والمصلحة الوطنية؟