المصدر: المدن
الثلاثاء 15 أيلول 2020 17:50:26
مضى على انفجار مرفأ بيروت أربعون يومًا، شهدنا خلالها موجة كبيرة من الهجرة إلى بلاد الاغتراب، ولا تزال الموجة تتحرك وتكبر.
بقايا الردم والركام وشظايا الزجاج والبيوت المتصدعة في شوارع مار مخايل والجميزة، لا تزال تعيدنا إلى وقت الفاجعة. خلت منازل كثيرة من أهلها، لكن لهذه الأماكن ناس أوفياء لها، لمنازلها، لذكرياتهم المتراكمة فيها على مرّ السنين، وعلى قدر الحوادث الأليمة التي مرّت على بيروت وكابدتها منذ بدايات الحرب الأهليّة.
العم روي حايك
مضت 41 سنة على افتتاح العم روي حايك محلّه "سوبر آوت" لتسجيل الأسطوانات والأغاني في مار مخايل. كان لا يزال شابًّا يافعًا في مقتبل عمره عندما افتتح المحل. كان يستطيع حمل البراميل لوضعها أمام محلّه لتكون ساترًا يقي من القصف الذي يصفه "بالاعتيادي والطبيعي". وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي.
اليوم يجلس روي حايك مكتهلاً على عتبة مدخل محلّه، الذي أزال منه الركام والشظايا. لكن على وجهه ابتسامة تستفّز طاقتنا القتيلة أو الموؤدة نحن جيل الشباب.
يحدثنا عن حريق المرفأ الثاني الذي اشتعل في العاشر من أيلول الجاري، في مستودع الإطارات المطاطية والزيوت: "عرفت أنّه حريق. بقيت في المحّل، أكملت التنظيف وإزالة الركام وإنقاذ ما بقي من المحل".
ردم وذكريات
ولد روي في مار مخايل. يخبرنا عن حبّه لها، عن الحياة التي ما ماتت فيها في أيّام الحرب الأهليّة (1975 - 1990). يباغتنا بجوابه قبل سؤالنا: "لن أنتقل إلى أي مكان آخر، ولا إلى أي بلد آخر. هذه منطقتي. على الحكّام الرحيل وليس نحن".
ليلة الانفجار الكبير جاء روي إلى محلّه المتضرر، مخافة أن يتعرّض للسرقة. جلس الليلة المرعبة كلها على عتبة بابه، منتظراً شروق الشمس. حزنه على الأقراص المدمجة القديمة، الثمينة بندرتها وذكرياتها، - كقرص عمره سبعين عامًا، ونادر في لبنان – وخسارته المادية، سلباه النوم لليال طويلة. لكنّها صدمة و"بتقطع" (تمر).
الحرب الأهليّة وقسوة حوادثها على بيروت ولبنان كله، لم تسلبه الطاقة الإيجابية. تابع طريق الآلام بلا يأس. وها هو ينفض غبار الردم عن الأقراص، يرتبّها قائلاً: "بيرجع.. بيرجع".
بكاء على أطلال
منى 55 عامًا في مار مخايل. ما أن نبادرها بالكلام حتى تخنقها الغصّة، وتدمع عيناها. كلماتها تشوبها الحرقة والألم: "خلقت هون وبحب موت هون بمار مخايل". يوم الانفجار كانت منى في منزلها مع والدتها وأخيها المريض، الذي تعرّض لإصابة غير خطيرة في رأسه. تضرر المنزل ضرراً كبيراً، لكنّها عادت إليه بعد أيّام.
وها هي جالسة على العتبة، حزن خانق يقبض على أنفاسها، فيما تتخيل هي أنها تريد إعادة روح مار مخايل إلى ما قبل الرابع من آب: "منطقتنا كتير حلوة. أنتم ترونها الآن مدمرّة. لكنّها جميلة جدًا".
معظم ساكني الحيّ غادروه. لا تملك منى مكانًا آخر تلجأ إليه هربًا من ظلال الموت ورائحته اللتين تحاصران المكان. لكنها لا ترغب العيش في مكان آخر غير منطقتها التي تمتلئ عيناها بالدموع، كلما سئلت عنها: "انظري ماذا فعلوا أمس. إنهم ينوون القضاء علينا، رح يشحطونا"، تردّد منى. تريد استكمال حياتها هنا، لكن حريق العاشر من أيلول الجاري يشعرها بالتهديد في كل لحظة، وبإهمال السلطات.
أم وليد: هنا بيتي لن أهاجر
ذكريات الحرب الأهليّة هي القاسم المشترك بين كبار السنّ في مار مخايل. وها هم اليوم يرفضون مغادرة منازلهم التي تعرّضت لأضرار كبيرة.
ندخل منزل أم وليد في الجميزة. في وسط المنزل جرة فخّارية بتر الانفجار نصفها. لكن أم وليد أبت التخلّي عن نصف الجرة المبتور. وضعته شاهدًا على فساد السلطة. وهي من عايشت الحرب الأهليّة بسنواتها الطويلة، أبصرت هلِعةً في الرابع من آب أبواب منزلها تنخلع من عصف الانفجار، والنوافذ تنخلع أيضاً ويتحطّم زجاجها.
لا طاقة لها على الإجابة عن أسئلتنا، لكنّها تختصر الحكاية بعبارتين: "لا خيار آخر لدينا" و"بس نحنا ولا مرّة تركنا". ليست المغادرة أو الهرب حلاً لأم وليد. الهجرة تخيفها، ولا خيار آخر لديها سوى البقاء، على الرغم من فرص للهجرة إلى فرنسا وكندا. "لن أترك منزلي"، قالت.
"كل ما يمكن ترميمه نرممه، هكذا هو لبنان"، بحسب أم وليد. تخبرنا عن مرّات متتالية، كثيرة ومتباعدة، التي أُرغمت فيها على طلاء المنزل، لأسباب كثيرة: "حرب على خطوط تماس، قصف، رصاص، انفجار". وتتابع: "في سنوات الحرب كنا نقول في كل عام إنّه العام الأخير. وتوالت السنوات. يتهدّم جدار تتحطم نوافذ، فنقوم بإصلاحات وترميم، مرارًا وتكرارًا".
تقول إنها كانت لا تزال تحاول تنظيف ما خلّفه انفجار الرابع من آب، عندما امتلأ منزلها بدخان حريق العاشر من أيلول الجاري: "تعبنا.. بيكفّي بقا".
جيل الحب والأسى والرحيل
إصرار جيل الحرب المسن اليوم، على ترميم البيوت القديمة وبعث شيئ من حياة بعد الردم والركام، يقابله تعب الجيل الشاب.
ولد وليد في أواخر سنوات الحرب الأهلية. لا يذكر الكثير عن تلك المرحلة. هاجر إلى فرنسا في العام 2004. وعاد إلى بيروت. كان الوضع الاقتصادي في لبنان جيّداً آنذاك. لكنه اليوم يريد الهرب من دوّامة الفساد التي "تنهب البلد، تسرقه وتخنقه. لا أريد الاستمرار على هذا المنوال"، يقول. ثم يتابع: "دافع الحب لا يكفي لعيش كريم ومستقر في بلد يعيش على القلق والتهديد الدائمين، بل يتحول الحب إلى أسى مرير، لأنّ شبح الحرب يبقى يحوم فوق هذا البلد اللعين".
ويقول وليد: "طفولتي مرتبطة بتفاصيل الأشياء في هذا المنزل". وهو عاد بعد يومين من انفجار المرفأ، لمساعدة والديه في ترميم ما تبّقى من ذكريات شتتّها الانفجار في أرجاء المنزل. أشد ما يحزنه دمار البيوت القديمة التي كانت تعكس جمال منطقة الجميزة. "لبنان بلدي، صحيح. لكنه بلد بلا أفق. أستطيع زيارته كل شهر، إن أردت"، يقول.
أبناء الجيل الشاب - ممن لأهلهم المكتهلين في الجميزة ومار مخايل بيوت وأملاك وإقامة طويلة - خائفون من أن يظلوا عالقين مثل أهلهم في دوّامة ترميم البيوت وإرادة البقاء واستعادة الذكريات والحنين. بينما السلطة الحاكمة تدمّر بفسادها لبنان وحياتهم ومستقبلهم.