المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نوال نصر
الثلاثاء 14 كانون الثاني 2025 07:05:17
جيل الستينات؟ السبعينات؟ جيل ما قبل الحرب وجيل الحروب البائسة المتتالية في الثمانينات وحتى التسعينات؟ أنتم إذاً أولاد "زمن النحس" الذي قد تكونون "زمطتم" فيه من الموت مراراً لكن، بالتأكيد، لم "تزمطوا" من القهر واليأس والموت البطيء والتشرذم إرباً إرباً؟ ولدتم في العام 1960؟ ها قد بلغتم اليوم سنّ التقاعد. عمركم ضاع وأنتم تنتظرون سلاماً منشوداً غير ملموس. ولدتم قبل ذلك بقليل أو بعد ذلك بقليل؟ ها أنتم قد عبرتم إلى المقلب الآخر من العمر ولم تلتقطوا بعد الأنفاس. والأنكى، أن لا أحد، لا أحد أبداً، يبالي بكم. ماذا عنكم؟ ماذا عن البدايات الطفولية والطفولة المتأخرة والشيخوخة المتّشحة بسواد المرحلة؟ وماذا عن الوعود المتكرّرة بعهد- وبعهود- متجدّدة نحن فيها اليوم؟ وماذا "يا عالم يا هو" عن لبنانيين أطلقوا صرخة الحياة الأولى في ستينات قرنٍ مضى ويكادون يطلقون أنفاسهم الأخيرة وهم ينتظرون على قارعة وطن؟
جيل الستينات يُعرف بجيل الاستقلال، أما جيل السبعينات فيُسمّى الجيل الذهبيّ! فهل يكفي هذا لتفرحوا؟ لا، مهلكم، فأنتم أوّل العارفين أنكم لم تعيشوا الاستقلال ولم تشعروا بذهبية أي مرحلة. فهل أخطأ من سمّى هذين الجيلين بتَيْنِك التسميتين أم كان يتكلم على منطقة أخرى من هذا العالم الكبير؟
حظّكم أنكم ولدتم في لبنان. أطلقتم صرخة الحياة الأولى في زمن لبنان الجميل. زمن فيروز وصباح ووديع الصافي وجورجينا رزق والفنون والآداب. سمعتم عن كل ذلك لكنكم لم تعيشوا تلك المرحلة. كنتم أطفالاً. وسمعتم، بلا شك، وأنتم تكبرون، من يستذكر أحداث 1958 مردّداً: تنذكر وما تنعاد.
فلنعد 64 عاماً إلى الوراء، إلى مواليد 1960. فكيف كبروا؟ وعلامَ كبروا؟ كان لبنان في عزّه. كان لمقولة "نيال يلي عندو مرقد عنزة في لبنان" معنى. كان بلدنا سويسرا الشرق وباريس الشرق الأوسط وعنوان التجارة والثقافة والسياحة والاقتصاد والأناقة والرقيّ. كانت أعواماً ذهبية. والليرة كانت "باللوج". سمير قصير ولد في هذا العام. حسن نصراللّه أيضاً. وشبلي الملّاط وحسين الحاج حسن... الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم تأسّست عام 1960. وجامعة بيروت العربية أنشئت. ومدرسة القوات الجوية اللبنانية افتتحت. وبيروت أصبحت "الزمن الجميل". مهرجانات غنائية "ع مدّ العين والأذن": "موسم العزّ". وملكات الجمال طلّينَ في مسابقة بالبكيني بين هياكل أعمدة بعلبك. شارل أزنافور غنّى على مسرح كازينو لبنان. بريجيت باردو زارت هي أيضاً لبنان وأقامت في فندق فينيسيا. يا اللّه على جمال لبنان في ستيناته. "نيال" مواليد الستينات بولادتهم في ذاك العام. لكن، الأشياء الجميلة لا تدوم غالباً فكيف حالها في بلد من يولد فيه يتخبّط في وحول عائمة؟ في ذاك الزمن، انفرط العقد بين الأخوين الرحباني وزكي ناصيف وتحوّلت الشراكة بينهما إلى منافسة. الموسيقار بليغ حمدي سجّل أوّل ألحانه التي غنّتها أم كلثوم: "حبّ إيه". وغنّت فيروز في دمشق "لملمت ذكرى" وفي مضمونها: "أيدٍ تلوح من غيب وتغمرني بالدفء والضوء". كما غنّت فيروز من كلمات سعيد عقل أغنية منعتها إذاعة لبنان لاحتوائها ألفاظاً قيل إنها نابية: "مين قال حاكيتو وحاكاني/ ع درب مدرستي/ كانت عم تشتي/ ولولا وقفت رنحت فستاني/ وشو هم كنا صغار ومشوار رافقتو أنا مشوار...". وغنّت فيروز في العام نفسه "دار السلام" لبغداد. ومُنعت أغانيها طوال ستة أشهر لرفضها إحياء حفلة على شرف الرئيس الجزائري الهواري بومدين. كانت جرأة في زمن جميل جميل.
أغنيات وطنية
وانطلقت الأغنيات الوطنية: محلاك يا مصري لأم كلثوم وراجع راجع يتعمّر راجع لبنان/ راجع متحلّي وأخضر راجع لبنان/ لزكي ناصيف، ويا أخضر وبتبقى أخضر لمحمد جمال... أغنيات أغنيات... لا بُدّ أن تكون عيونكم الآن تدمع يا من بلغتم اليوم سنّ التقاعد! ومشينا إلى سبعينات مجبولة بضبابية سادت. أصبح من ولدوا في الستينات في العاشرة من العمر. نسأل أولاد هذا الجيل عن أغنيات عشقوها فيسردون: الزينة لبست خلخالا، وسألوني الناس، وخدني معك، ومطرحك بقلبي، والقدس العتيقة، ودبنا ع غيابك دبنا، وسألتك حبيبي... انتُخبت جورجينا رزق ملكة جمال لبنان عام 1970... حتى هذا الوقت كانت الأمور على ما يرام، تقريباً على ما يرام، إلى أن بدأت طبول الحرب تقرع. ومذاك حفظ أولاد جيل الستينات أغنيات: تسلم يا عسكر لبنان، وغالي غالي يا وطني، وبكتب إسمك يا بلادي... أغنيات عزّزت ثورة في شجون أولاد جيل الثورة. واندلعت أحداث 1975. كانوا أولاداً. انشطرت بيروت إلى بيروتين. فحمل الأولاد البنادق وهم يرندحون: تعلا وتتعمر يا دار، وبتبقى عالي يا لبنان، وشرفي وأرضي أغلى من الدنيي يا سيدي ولو بدك تقطع لي إيدي على بيعهن مش ممكن أمضي. فهل تتخيلون معنى أن يكبر طفل على أصداء قرقعات الحرب والأغنيات الوطنية والخوف من مغتصبين عيونهم على الأرض.
نصيب أولاد هذا الجيل أن يولدوا وفي فمهم ملعقة من ثورة. قسمٌ ظنّ أنّ ذلك يتحقّق بالانضواء في ركاب القومية العربية وقسمٌ آخر رأى أن "الثورة" لن تتحقق إلّا بالانضواء في كنفِ القوات المسيحية والدفاع عن الأرض والعرض من الغاصبين. فلسطين استمرّت حاضرة في لبناننا دائماً، في الأغنيات والثورة، ومع هذا وضدّ هذا. فالفلسطينيون، أو بعضهم كي لا يزعل البعض، بحثوا عن أرضٍ بديلة. أسرٌ على مدّ العين نزحت من مناطقها. بيوت هُدّت على من فيها. خطفٌ وقتلٌ وشتات. أولاد جيلي الستينات والسبعينات يتذكّرون تلك المرحلة جيداً. كان الخوف على المصير كبيراً. هؤلاء عانوا، كبروا وشاخوا. تعب بعضهم لكنّ قلة قليلة استسلمت. انظروا حولكم. هناك كثير كثير من جيلي الستينات والسبعينات من حولكم ممّن لم يهاجروا في زمن الشباب، حين كانت الهجرة إلى كثيرين خلاصاً. أنصتوا إليهم. الأغنيات نفسها ما زالت تداعب مشاعرهم، حتى أن بعضهم يستمرّ يرندح مع ريمي بندلي، تلك الطفلة التي وقفت أمام رئيس الجمهورية اللبنانية، في أحد أزمنة المحنة مردّدة: اعطونا الطفولة؟ فهل تتصوّرون ابن الـ 60 أو 64 يرندح: اعطونا الطفولة؟ ثمة جيل خسر الكثير وها هو اليوم يعيش بلا ضمان، مجرّداً حتى ممّا أتاه من عرق الجبين. يا الله على هؤلاء. ثمة من خسروا الكثير الكثير لكنهم ما زالوا يرفعون الرأس عالياً، بشموخ، بمجرّد أن يسمعوا: كلنا للوطن للعلى للعلم.
بين الهجرة والحنين
إسألوا ابن الـ 64 اليوم: ماذا تنتظر؟ سيرجع أربعين أو خمسين أو ستين عاماً إلى الوراء ويقول: ليت الشباب يعود؟ اسألوه: لماذا هذا؟ وماذا قد تُغيّر؟ وأنصتوا إلى جوابه. سيقول حتماً: سأهاجر. سنهاجر. لو ما زلتُ أصغر قليلاً لوضّبتُ حقائبي وهاجرت. ثمة من يشعر أن المستقبل أصبح وراءه والماضي يحطّم قلبه.
نمرّ من أمام مجموعة رجال، الشيبُ يُكلّل رؤوسهم، يجلسون على رصيف بيروتي ويتسامرون. ننصت إليهم فنسمع: غزّة، وفلسطين، والجنوب، والقلق، والخوف على المصير والبيت وجنى العمر ورئاسة الجمهورية ونجيب ميقاتي... لا شيء يا عالم تغيّر. تستمرّ المرادفات نفسها منذ 64- و65- عاماً. تمرّ مركبة على الطريق، يقودها شاب، تصدح من مذياعه أغنية: يا حبيبي يا جنوب. يبتسم شباب الستينات والسبعينات- الكهول في منطق الزمن- مرندحين الأغنية نفسها. ينسون لوهلة كل ما فعله بهم القدر والوطن والمصير وتراخي الدولة وآثام الطامعين والمغرّدين بألف مشروعٍ ومشروع ويتذكرون الجنوب وحده. هؤلاء أولاد رميش ودبل وعين إبل وكفركلا والقليعة والعديسة... هؤلاء، أكانوا مع غزة أم مع لبنان أولاً، يرجعون في لحظة، في أقل من لحظة، إلى الانتماء الأول، إلى الجذور، إلى الجنوب اللبناني وحده. هو الحنين الدائم إلى الوطن حتى ممن اعتبر- منذ برهة- أن الوطن لعنة.
وها هم هؤلاء، ممّن يفترض بهم التقاعد من التعب والانصراف- كما في كل العالم- إلى ذهبية العمر الجديد لا يستكينون من كثرة القلق على ما تبقّى من العمر. هؤلاء تعبوا ولم يجدوا. إنهم يشعرون وكأن العمر تسمّر في واحدة من لحظات العام 1975 أو 1982 أو 1990 أو 2005 أو 2006 أو 2024... وها هم اليوم في 2025. لا شيء تغيّر إلا غياب فيروز وزكي ناصيف وبشير الجميّل ورفيق الحريري ووديع الصافي وحسن نصراللّه...
هو الجيل الذي ولد في لحظة ثورة، تعب كثيراً، لكنه يستمرّ جيلاً ثائراً وإن باللحم الحيّ. له الاحترام.
ها هم مواليد زمان يرقصون اليوم فرحاً. إنهم يكادون يطيرون من الفرح. وفي بالهم وقلبهم وعقلهم انتظار جديد بقيامة لبنان جديد. هؤلاء تذكّروا بشير (الجميل) وهم يسمعون جوزاف (عون). فرحوا وخافوا في آن واحد. فالتجارب التي مرّوا بها بمرارة العلقم. وهم العالمون أن لا شيء يعادل ألم الخذلان ومرارة الخيبة. فهل سيُكتب للبنانهم- الذي أخذ منهم ولم يعطهم- القيامة؟