المصدر: المدن
الكاتب: خضر حسان
الخميس 30 تشرين الثاني 2023 16:49:30
تشكّل المرافىء البحرية عصباً اقتصادياً لا جدال فيه، لأي بلد في العالم، سيّما البلدان التي تُعتَبَر حلقة وصل أو معابر مفتوحة على بلدان أخرى، وهو الموقع الجغرافي الذي يشتهر به لبنان على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. وهو الميزة التي جعلته بلد المرافىء البحرية منذ زمن الفينيقيين. لكن تلك الميزة لم تُستَغَل بصورة إيجابية، فبقيت المرافىء مهملة وتلبّي حاجة بعض المناطق لأغراض صيد السمك وبعض التجارة الخفيفة، نظراً لعدم توسعة تلك المرافىء وتجهيزها لاستقبال سفن ذات غاطس ضخم يحتاج إلى أعماق وأرصفة واسعة.
وللمفارقة، لا يترك وزراء الأشغال العامة والنقل المتعاقبين، مناسبة، إلاّ ويعلنون فيها عن ضرورة تحسين المرافىء وتنشيط حركتها تجارياً وسياحياً. لكن في كلّ مرة تظهر العقبات، وتتكامل مع العقبة الأساسية الثابتة، والتي تتمثَّل بعقم الإدارات العامة وسيطرة الفساد داخلها. ومع ذلك، يريد وزير الأشغال العامة والنقل الحالي، علي حمية "تجربة حظّه" في هذا الملف، عبر طرحه العمل على "حفظ أدوار المرافئ اللبنانية كافة سواء أكانت تجارية أم ذات وجهة سياحية".
من الشمال إلى الجنوب
الحديث عن تطوير المرافىء، خصوصاً في بيروت وجونيه وصور، ينطوي على نيّة لخلق مسار اقتصادي مغاير لما هو سائد. لكن التغيير يحتاج إلى أدوات وتمويل ومشاريع تطال كافة المرافىء. وضمن هذا السياق، بحث حمية مع وفد قبرصي برئاسة وزير الشحن مارينا هادجيمانوليس، قضية "تعزيز نمو العلاقات اللبنانية القبرصية على صعيد النقل، سيما البحري منه"، وذلك على هامش انعقاد الجمعية العمومية للمنظمة البحرية الدولية، يوم أمس في العاصمة البريطانية لندن. وخصَّ حمية بالذكر مرافىء جونية وبيروت وصور، وهي مرافىء قادرة برأي الوزير على "أخذ دورها المنشود في تفعيل النقل السياحي مع نظيراتها القبرصية. فضلاً عن أنها يمكنها لعب دورها الذي تستحق كوجهة ومحطة على حد سواء".
الآمال التي يعقدها الوزير على دور تلك المرافىء وغيرها، من الشمال إلى الجنوب، تحكمها شروطٌ، أوّلها توفير التمويل لمشاريع التوسعة والتطوير، وهذا يستدعي فتح المجال أمام مشاركة المستثمرين العرب والدوليين، إلى جانب استمالة الجهات الدولية المموِّلة لمثل هذه المشاريع، على غرار البنك الدولي. وبالتوازي، إعادة فتح ملفات مشاريع تطوير المرافىء النائمة في الأدراج، ومنها تطوير وتوسعة مرافىء جونية وصيدا، وإعادة تحريك ملف إعادة إعمار مرفأ بيروت. وأبعد من ذلك، تنشيط الحديث عن تطوير مرفأ صور ومرفأ الناقورة. ولا يعني ذلك إبعاد مرفأ طرابلس عن التطوير، حتى وإن كان يعمل بصورة جيّدة، وهو المرفأ الأهم بعد مرفأ بيروت، وزادت حركته بعد تفجير مرفأ العاصمة في العام 2020.
وبذلك، تصبح خريطة المرافىء اللبنانية أمام ضرورة التطوير والتحديث. لكن أن يأتي هذا الطرح في ظل الواقع اللبناني الراهن، فهو عمليةُ رفعُ سقفٍ معروفة النتائج، لأن الجهات الرسمية المناط بها إنجاح خطّة تطوير المرافىء، هي نفسها التي ساهمت على مدى عقود في إفشال حركة تلك المرافىء وإقصاء الكثير منها عبر التهميش.
العبرة بالثقة والتمويل
يؤيّد النائب الأول لرئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة البحرية، إيلي زخّور، توجّه الوزير حمية لتطوير حركة المرافىء اللبنانية، خصوصاً في المناطق السياحية مثل جونية وصور.
غير أن استناد العملية إلى "جذب المستثمرين لتمويل المشاريع، يصطدم بالفساد المتغلغل في الدولة، وبعدم وجود قضاء قوي". ووفق ما يقوله زخّور لـ"المدن"، فإن أول ما سينظر إليه المستثمرون، هو "وجود القضاء الذي سيفصل في حالات النزاع، كي لا يضيع حق أحد". ومن ناحية ثانية يشترط زخّور "تحسين العلاقات اللبنانية مع الدول العربية لأنها القادرة على تمويل مثل هذه المشاريع". وفي اليد الأخرى، لا يمكن طمأنة المستثمرين الأجانب ما لم يكن هناك مسعى من السلطة السياسية للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، وإنهاء ملف المصارف واحتجاز أموال المودعين، ومنهم الكثير من المستثمرين ورجال الأعمال.
ولا يُظهِر زخّور الكثير من الحماسة تجاه إنجاز المشاريع الموعودة لقطاع المرافىء البحرية، فالمشاريع المتعلقة بمرفأ صيدا توقّفت "والأعماق الموجودة حالياً هناك، لا تسمح بدخول سفن كبيرة. أما في صور، فالمرفأ هناك صيفيّ، أي يعمل في النشاطات السياحية الصيفية ولا يعوَّل عليه كثيراً في عملية الاستيراد". وليس مرفأ جونية بأفضل حال من مرفأيّ صيدا وصور، فيما مرفأ الناقورة يكاد يكون خارج أي حسابات إلاّ تلك التي كانت مطروحة نظرياً منذ العام 2018.
اغتيال دور المرافىء اللبنانية
وبعيداً من عملية التطوير للمرافىء، لطرابلس حصّة الأسد في حديث زخّور. فتطوير مرفأ المدينة يعود بالانعكاس الإيجابي الكبير على الاقتصاد اللبناني إذا تكامل التطوير مع علاقات عربية ودولية جيّدة. وبنظره "إن مرفأ طرابلس هو الأقرب جغرافياً للعواصم العربية، بما فيهم دمشق، مع أن سوريا تمتلك مرافىء مهمة. فهو أقرب إلى الحدود البرية بين سوريا ولبنان، وقريب برياً إلى دمشق". أما مرفأ بيروت ذو الأهمية الكبيرة "فكان يسمّى مرفأ العرب".
لتحسين العلاقات مع الدول العربية فائدة أبعد من جذب المستثمرين العرب لتمويل عملية التطوير. فالثقة التي يفترض بلبنان إشاعتها عربياً ودولياً من خلال إجراء الإصلاحات الداخلية "تسمح بتمرير الحاويات (كونتينر) بشكل مباشر عبر الحدود البرية من لبنان إلى سوريا ثم الأردن ومنها إلى دول الخليج، وهو أمر يفتقده لبنان اليوم، لأن الحاويات تُفتَح بغرض التفتيش. ويصبح لزاماً نقل السلع من الحاويات إلى الشاحنات، ما يعرِّض بعضها للتلف، وهو أمر يرفع أيضاً كلفة التأمين على البضائع لأن وجودها في الحاويات أكثر أماناً".
دُمِّرَ مرفأ بيروت بهدف اغتيال دور المرافىء اللبنانية في تسهيل حركة التجارة والسياحة على الضفة الشرقية للمتوسط. وبما أن سوريا تغرق في حرب طويلة الأمد، تتّجه الأنظار نحو مرفأ حيفا، وهو ما يسعى إليه العدو الإسرائيلي الذي تُشار نحوه أصابع الاتهام في تفجير مرفأ بيروت. والحديث عن تطوير المرافىء اللبنانية، يشكّل نوعاً من إرادة الاستمرار وإنعاش اقتصاد البلد تجارياً وسياحياً. لكن ليس بالخطط وحدها تحيا الاستثمارات والمشاريع.