المصدر: المدن
الاثنين 7 حزيران 2021 17:27:24
القاضي طارق البيطار يحمل قنبلة موقوتة بين يديه. قنبلة، يسمع دقّات عدّادها عند كل حركة وعند كل حين. يحقّق ويستجوب ويعقد الاجتماعات، والعدّاد يعمل كأنه منسجم مع دقّات قلبه. عالمان متوازيان، متساويان، متقاطعان، متلازمان. "تيك"، مرّت ثانية أخرى ولا يزال يراجع أوراقه. "تاك"، مرّت أخرى وورده جواب أو معلومة. "تيك تاك"، الضغط يزداد. مضى ثلاثة أشهر و19 يوماً على تكليفه يوم 19 شباط 2021، في ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت. وبلغة الساعة التي تتكّ، 108 أيام، أو 2592 ساعة، أو 155 ألف و520 دقيقة. وبشكل أدقّ 9 مليون و331 ألف و200 ثانية، والعدّاد يسجّل المزيد.
في مكتبه، يستقبل موقوفين، محامين، أهالي ضحايا، صحافيين، موظفين وشهود. ولو أنّ الملف فيه مئات الشهادات وآلاف الوثائق والمحاضر، طاولة مكتبه نظيفة. أو ربما تعمّد ترتيب سطح المكتب، إلا من كتاب قانون وبعض الأوراق وزجاجة مياه وأخرى لتعقيم اليدين. يستأذن ويخلع الكمّامة بحضور عدد من الصحافيين، "تلقيت جرعة اللقاح الثانية، دخلت وخرجت بالسر إلى المستشفى ما بقا حدا يستقبلنا، الكل كارهينّا بيكونوا". إن كره الناس العاديون، والخارجون من عضوية القطعان السياسية والطائفية، قاضياً يكون متخاذلاً وفاسداً. وإن كرهه سياسيون يكون نزيهاً وعادلاً. فلا يقع إلّا على عاتق القاضي وحده، تحديد الجهة التي ستكنّ له الحقد والمقت.
الشعر المستعار
في أروقة قصر العدل، وهي ملعب فسيح ومتشعّب للعدالة، القضاة لا يرتدون شعراً مستعاراً. لكان مشهداً صادماً لو ارتدى القاضي الشعر الأبيض المجعّد وجلس خلف مكتبه يستقبل ضيوفه أو مدعى عليهم. والشعر المستعار، عند القضاة، هو لتطهيرهم من أي ارتباطات شخصية أو سياسية في قضاياهم. وقد يكون معنى الشعر المستعار أحوج ما يكون إليه اللبنانيون اليوم في قضائهم الذي لم يحاكم فاسداً ولا ناهباً للمال العام طوال مئة عام من الدولة. القاضي طارق البيطار، رجل أربعيني يرفض التقاط صورة له. "أنظر إلى شعري" يتذرّع ممازحاً. فلو كان يلبس "الباروكة" لكانت الصورة التُقطت ونُشرت.
قضايا لامعة
كان معروفاً عن القاضي البيطار أحكامه البرّاقة. وبالمناسبة، هي الأحكام الطبيعية التي يمكن لأي ضحية أن تطلب بها. إلا أنه أنصف الضحايا، فعلياً. في سيرته القضائية الطويلة منذ عام 1999، ثلاثة عناوين أساسية: قضية قاتل الشاب روي حاموش، محمد الأحمر المحكوم بالإعدام. قضية قاتل المواطن جورج الريف، طارق يتيم المحكوم بالإعدام. قضية الطفلة إيللا طنّوس، والحكم الصادر لصالحها ويدين طبيبين وإدارتي مستشفى. ثلاث قضايا لامعة، تنتظرها على الأرجح رابعة وهي قضية الطفلة صوفي مشلب. ومع هذه القضايا، ملف جريمة 4 آب، والذي لا يُنتظر من البيطار فيه سوى العدالة التي اعتادها الضحايا في سيرته القضائية.
استلام التحقيق
كان لافتاً أنّ الجهات المعنية طلبت من البيطار، بعد أيام على جريمة 4 آب، تسلّم الملف. إلا أنه رفض. في هذا الإطار، يوضح أنه لم يرفض، بل "قلت إنه إذا لم يقبل أي من القضاة الآخرين القضية أتسلّمها". يؤكد أنّ سبب هذا الجواب "أنه كان لدي تحفّظات، فهو ملف بحاجة لإدارة خاصة، يجب أن تقوم له محكمة خاصة، ولجنة تحقيق بصلاحيات واسعة لا تعيقها حصانات، لأنه عدا ذلك، سنصطدم بعدة حواجز وعوائق". دارت الأيام، تسلّم القاضي فادي صوان الملف ثم كُفّت يده، وعاد وطُرح اسم البيطار. مجدداً، "قلت إني لن أتهرّب من مسؤولياتي إذا رفض أي من القضاة الآخرين الملف". يصف تلك اللحظة، بأنّ "الناس نزلت إلى الشارع، يبكون وغاضبون والدم لا يزال في الأرض. لكن في النهاية نحن مسؤولون، أنا قاض في الدولة، وعليّ واجبات تجاه الناس. شعرت بأني معني".
الضمير.. يؤنّب
يقول البيطار إنه استلم التحقيق في انفجار المرفأ "شعوراً بالمسؤولية وخوفاً من تأنيب الضمير لباقي حياتي بأني هربت من هذه المسؤولية". هو موجود في القضاء لتحمّل هذه المسؤولية وليس للنظر في قضايا سهلة، على ما يقول. "لن أفضّل الراحة على تسلّم الملف. أعرف أنه سيتمّ شتمنا وسبّنا ومساءلتنا.. لكن علينا التحمّل". يعد، كما وعد أهالي الضحايا، بأنه "سأقول الحقيقة كما هي، وسأصل إلى النتيجة، سأصل إلى كل شيء". يؤكد أنه لم يتعرّض في ملف المرفأ، لأي ضغوط. "أعرف أني قد اتعرّض لضغط هائل، وربما 90% من الشعب اللبناني قد يشتمني، لكني سأقول الحقيقة".
القاضي لوحده
يشعر البيطار أنه قاضٍ معزول. في تفسير الراحل سلام الراسي للمثل الشعبي، أو القول المأثور، "بيحكي قد قاضي معزول"، تقول الرواية إنه في القرن التاسع عشر في بيروت، اشترى رجل كمية من الأباريق المتنوعة الأشكال والأحجام وملأها ماء وصفها على متكئ أمام مدخل الجامع ليستعملها المصلون عند الوضوء واتخذ له مجلساً بالقرب منها وجعل يوزع أوامره على القادمين. فيوجّههم ويقول لهم "خذ الابريق المستطيل"، "دع هذا الابريق وخذ سواه"، "انتظر لأعطيك أحد الاباريق". واستمرّ الرجل على هذه الحال عدة أسابيع، وكان القادمون يتساءلون عما دفع هذا الرجل إلى القيام بهذه المهمة، من دون أن يكون له أي فائدة منها سوى الشعور بلذة الأمر والنهي، وفهموا أخيراً أنه "قاض معزول". القاضي البيطار، موجود في عزلة وليس العَزل. حتى أنه غير محبّ للكلام. أو أقله يحاول قياس وقع كلماته وما يمكن أن توحيه ويُستنتج منها حفاظاً على "سريّة التحقيقات". ولو أنه يعتبر أنّ هذه "السرية" يجب أن تسقط في ملف بهذا الحجم وفي قضية وطنية كبرى.
دم وإقامة جبرية
القاضي البيطار يشعر بأنه معزول. "قاعد في منزلي مش عم بطلع منه". هو في شبه إقامة جبرية. "وين إلك نفس تروح؟ وين بدك تروح وفي تحقيق ماشي؟ كيف إلك نفس تروح". يضيف "تخايل أني جالس في مقهى بين أصدقاء لي وبين الناس والتحقيق مستمرّ، نفسياً الوضع لا يحتمل". يعرف أنّ الدماء لم تجف بعد. ولن تجفّ طالما أن العدالة لم تتحقّق. "مطلوب مني أن أقول للعالم شو صار يوم 4 آب". يقول إنه زار المرفأ ثلاث مرات. هو مسرح الجريمة الأعرض والأكبر. مساحة قتل فسيحة. "المرفأ يوجع القلب، المشهد مبك هناك، وكثير من الحزن".
سوبرمان..
طوال مسيرته القضائية، يؤكد البيطار إنه لم يتعرّض لأي تهديد. عالج قضايا "إرهاب في منطقة الشمال، وجنايات في بيروت، وخطف ومخدرات". ولو أنه قبل عام، وتحديداً في شهر تموز 2020، وقعت حادثة أمنية فتح خلالها أحد المواطنين قنبلة يدوية في مكتب البيطار وخلال وجود الأخير: "لم يأتِ لاستهدافي وتبيّن أنه كان يعاني من مشكلة ما". لا يريد ادعاء بطولات. ليس سوبرمان، على الرغم من سيرته الحسنة. إلا أنه قد يصبح في مقام البطل الخارق إن أخرج القرار الظني وأقنع اللبنانيين. فالقرار الظنّي الجيّد، هو القرار الذي يقنع الناس عموماً، وأهالي الضحايا خصوصاً.
القاضي طارق البيطار، ليس بطلاً خارقاً. لا يرتدي بدلة زرقاء ورداءً أحمر. ولا يرتدي باروكة أيضاً. إلى الآن هو قاضٍ برتبة حارس مرمى في لعبة كرة لا قواعد فيها. لا حدود لملعبها، فلا تخرج الكرة.. والمباراة مستمرّة من دون توّقف. لا استراحة فيها ولا وقت مستقطع، ولا قانون تسلّل ولا حكم يشهر بطاقات صفراء أو يمنح الأخطاء. مرماه مشرّع، ضد كل اللاعبين. المتورّطون يريدون التسجيل فيه. المدعى عليهم كذلك. الضحايا غير المباشرين يصبّون غضبهم عليه. هو "غولار" ضائع، لا لشيء إلا لأنه يقف في باب المرمى. وسيبقى كذلك إلى حين إصدار قراره. فلا يقع إلّا على عاتقه وحده، تحديد الجهة التي ستكنّ له الحقد والمقت. هو قاضٍ بلا مناصرين، في زمن بات فيه للقضاة أنصار وشبيحة وبلطجيون. وسيبقى بلا مناصرين، لحين تقديم وجهة نظره للعدالة والحقيقة، ويقنع الناس بها.