من ملاجئهم: الأوكرانيون يعلّمون لبنان التعثّر المنظّم

تمكّنت أوكرانيا يوم أمس الجمعة من الحصول على موافقة حَملة سندات اليوروبوند الخاصّة بها، أي سندات الدين السيادي بالعملات الأجنبيّة، لتأجيل دفعات هذه السندات على مدى سنتين ابتداءً من هذا الشهر، مع جميع الفوائد التي تستحق خلال هذه المدّة. هذه الخطوة، تمثّل تحديدًا ما فشل لبنان في القيام به في آذار 2020: التوجّه نحو تعثّر مدروس ومنظّم، بالتفاهم مع الدائنين، ووفقاً لخطط ماليّة وسيناريوهات وبدائل يمكن الاتفاق عليها مع حملة السندات.

أمضى لبنان سنتين وخمسة أشهر بعد تعثّره في سداد ديونه من دون أن يتكبّد عناء التفاوض مع الدائنين، أو حتّى تحديدهم والتعرّف عليهم، ما حمّله كلفة بيع السندات التي تحملها المصارف إلى الدائنين الأجانب قبل التفاهم على إعادة هيكلة الديون. أمّا في أوكرانيا، وقبل استحقاق السندات، قام المسؤولون على مدى أشهر بالتفاوض وصياغة الخطط التي يمكن التفاهم عليها مع الدائنين، للتوصّل إلى أفضل اتفاق ممكن لمصلحة بلادهم، ما جنّبهم سيناريوهات التعثّر الفوضوي. بالتأكيد، استفاد المسؤولون في أوكرانيا من بعض العوامل السياسيّة الخارجيّة المساعدة، لكن الفرق الأساسي بين لبنان وأوكرانيا يبقى في نوعيّة القيادة السياسيّة، والإدارة الماليّة الفاعلة والسريعة في حالة أوكرانيا، مقابل غياب المبادرة الكلّي في حالة لبنان.

 التعثّر المدروس والمنظّم
في الحالة الأوكرانيّة، نحن نتحدّث عن إدارات حكوميّة بات يعمل معظمها من الملاجئ، وعن بلاد تواجه الغزو الروسي وحصار مناطق شاسعة منها، ناهيك عن القصف الذي طال البنية التحتيّة وخطوط إمداد الغذاء ومصادر الطاقة فيها. في هذه الظروف بالذات، خاضت أوكرانيا غمار مفاوضاتها مع حملة سندات اليوروبوند على مدى الأشهر الماضية، للتمكن من الوصول إلى التفاهم الذي صوّت عليه الدائنون بالأمس. وللوصول إلى هذا التفاهم، كان على أوكرانيا أن تحدد لدائنيها سيناريوهات عديدة للمستقبل، مع خطط واضحة في حال حصول أي من هذه السيناريوهات، كما حددت تعهّدات وإلتزامات معيّنة ستترتّب عليها في كل من الخطط المطروحة.

ثم كان على الأوكرانيين خوض محادثات شاقّة مع مستثمري كل شريحة من شرائح سندات اليوروبوند ال13، والتي يستحق كلّ منها في تاريخ منفصل. فعقود هذه السندات كانت تنص على ضرورة حصول أوكرانيا على أصوات توازي 75% من قيمة كل شريحة من شرائح اليوروبوند على حدة، للتوصّل إلى تفاهم ملزم لحملة سندات كل شريحة ذات استحقاق معيّن. ولهذا السبب، كان على أوكرانيا أن تدخل في مسارات تفاوضيّة منفصلة مع 13 مجموعة مختلفة من حملة السندات، وكان عليها إقناع هؤلاء بالخطط والسيناريوهات المطروحة، وتعديل هذه الخطط والسيناريوهات بما يسمح بالحصول على نسبة الأصوات المطلوبة من كل من هذه الشرائح ال13. ومع تعدد الأطراف التي تحمل هذا السندات، تعددت الهواجس والأولويات، ما حتّم تعدد المطالب بالنسبة للخطط التي تطرحها أوكرانيا، وهو ما عقّد مسألة مواءمة الخطط مع مطالب حملة السندات.

من الملاجئ التي عملت فيها الإدارات العامّة الأوكرانيّة، جرت كل هذه المفاوضات، وتم تعديل الخطط مرّات عديدة، إلى أن تم تقديم الطرح النهائي للتصويت يوم أمس، فحصلت أوكرانيا على موافقة حملة سندات اليوروبوند على الطرح النهائي. وبحسب هذا الطرح، سيتم تجميد سداد كل السندات لغاية الاوّل من آب عام 2024، مع الامتناع عن سداد فوائد السندات أيضًا، وبموافقة الدائنين أنفسهم. مع الإشارة إلى أنّ قيمة السندات المشمولة بهذا التفاهم توازي نحو 20 مليار دولار، في حين أن أوكرانيا ستحتاج إلى إعادة هيكلة هذه الديون بعد سنتين، لكن وبحسب احتمالات متعددة تأخذ بعين الاعتبار تطوّر الأحداث العسكريّة الراهنة.

 التعثّر اللبناني وسوء الإدارة
قد يشير البعض إلى الدعم الغربي الذي تحظى به الحكومة الأوكرانيّة اليوم، بوصفه عامل مهم سهّل إنجاز هذا المسار بالنسبة لأوكرانيا، مقابل غياب هذا العامل في حالة لبنان. ومن الناحية العمليّة، يمكن القول أن الدور السياسي مثّل بالفعل عنصر مساعد بالنسبة لأوكرانيا، لكنّه لم يكن الفارق الأساسي والأهم بين حالتي لبنان وأوكرانيا، ولم يكن العامل الأهم الذي أدّى إلى اختلاف التجربتين. إذ تكفي مراجعة سريعة لكيفيّة تعثّر لبنان في سداد سندات اليوروبوند في آذار 2020، ومقارنتها بالأداء الأوكراني، ليكتشف أن الفارق الأساسي تمثّل في نوعيّة الإدارة السياسيّة المحليّة للأزمة، وفي مستوى المبادرة التي قامت بها كل من الدولتين على هذا المستوى. بل يمكن القول أن لبنان لم ينجز أبسط البديهيّات المتوقعة منه على هذا المستوى، ليجرؤ مسؤولوه على الادعاء بأن غياب الدعم الغربي هو ما منعهم من إنجاز تعثّر منظّم ومدروس.

ففي آذار 2020، أعلنت حكومة حسّان دياب امتناعها عن سداد سندات اليوروبوند، دون أن تكون الدولة اللبنانيّة قد حضّرت أي تصوّر لما بعد إعلان الامتناع عن الدفع، بل ودون أن تبادر حتّى إلى محاولة التوصّل إلى تفاهم على إعادة جدولة السندات مع الدائنين. أمّا الغريب في الموضوع، فهو أن أي من حكومتي دياب وميقاتي لم يحاولا حتّى بدء عمليّة فرز حملة السندات وتحديد هوياتهم، تمهيدًا لعمليّة التفاوض على إعادة الهيكلة. أمّا بالنسبة إلى الخطط الماليّة التي يفترض أن تتم المفاوضات مع الدائنين على أساسها، فمن المعلوم أن خطّة حكومة دياب سقطت بضربات داخليّة قاضية بمجرّد إقرارها في الحكومة عام 2020، فيما لم تبادر حكومة ميقاتي حتّى اللحظة إلى إعداد "استراتيجيّة إعادة هيكلة الدين العام"، التي يفترض أن تكون خارطة الطريق للتفاوض مع الدائنين.

بمعنى آخر، بدأت أوكرانيا بإنجاز خططها الماليّة وفاوضت دائنيها قبل أشهر من استحقاق السندات التي علّقت سدادها يوم أمس، فيما لم ينجز لبنان أي من هذه الخطوات حتّى بعد سنتين وخمسة أشهر على تعثّره. وهنا بالتحديد، يصبح الفارق الأهم بين الحالتين هو الإدارة الداخليّة للأزمة، لا نوعيّة العوامل الخارجيّة المساعدة، طالما أن لبنان لم يساعد نفسه أولًا كي يسأل بعدها عن توفّر المساعدة الأجنبيّة. لا بل يمكن القول أن لبنان لم يؤسس أصلًا لمسار ما للمعالجات الماليّة، كي يبحث بعدها عن الدعم الخارجي لهذا المسار.

في خلاصة الأمر، يمكن القول أن أوكرانيا تمثّل نموذج عن دولة تخوض نزاع مسلّح في وجه غزو خارجي، لكنّها تمكّنت من إدارة الجانب المالي من أزمتها بجدارة. أما لبنان، فيمثّل نموذج لدولة تعمّدت تهشيم اقتصادها وماليّتها العامّة ونظامها المالي، وأمعنت في الذهاب نحو السقوط الحر، ثم راحت تبحث عن عوامل خارجيّة يمكن أن تحمّلها مسؤوليّة انهيارها المالي.