الأسوار الجيدة تصنع جيراناً جيدين..القرار 1680 مثالاً

برزت خلال اليومين الماضيين قضية الاشتباكات على الحدود الشرقية اللبنانية بين قوات الحكم السوري الانتقالي ومجموعة ممن يُطلق عليهم اسم عناصر "العشائر" من أبناء المنطقة الحدودية. هذه الواقعة تعيد تصويب البوصلة نحو جوهر المشكلة اللبنانية، وهي عجز الدولة عن بسط سيادتها الكاملة على أراضيها، ورفضها اتخاذ زمام المبادرة لنزع سلاح جميع الميليشيات، وعلى رأسها ما تبقى من سلاح "حزب الله".

لطالما كانت الحدود اللبنانية الشرقية متروكة لمجموعات العشائر وبعض من امتهن التهريب والجريمة المنظمة، كتعويض ضمني عن إهمال الدولة لهذه المنطقة الفقيرة والمنكوبة. أبناء هذه المنطقة وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما النزوح وإما البقاء في أراضيهم تحت أي ثمن. ولكن على مدى العقود الماضية، تغير هذا الترتيب مع دخول "حزب الله" إلى المشهد، حيث قام بتسليح المهربين وبعض العشائر لتوظيفهم في مشروعه العسكري المذهبي والتوسعي. وأدى ذلك إلى احتكار "الحزب" للتهريب، وإخضاع القرى الحدودية السنية التي رفضت الانصياع له، وعلى رأسها بلدة عرسال.

مع تدخل "حزب الله" في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد، تحولت المنطقة الحدودية إلى ساحة مواجهة بين سكانها وبين خصومهم السوريين، ومنهم التنظيمات المتطرفة التي وجدت في قتال الشيعة اللبنانيين حجة للانتقام. فكانت النتيجة أن تعرضت القرى الحدودية وأهلها لهجمات شرسة من تنظيم داعش وأخواته، ما دفع بعض سكانها إلى الارتماء في أحضان "حزب الله"، قبل أن يشن الجيش اللبناني في أغسطس 2017 عملية فجر الجرود التي قضت على أطر المتطرفين، لكن لم يكن لـ "حزب الله" مصلحة في هذا النصر، فسارع إلى تهريب الإرهابيين في "حافلات التهجير" الشهيرة، ليبقى التهديد قائماً ويمكن استغلاله لاحقاً.

إن التدمير شبه الكامل لبنية "حزب الله" العسكرية، ومقتل أمينه العام وقيادته، كشف عن انقسامات داخل "الحزب"، حيث برزت تيارات جديدة إلى الواجهة، أبرزها "تيار العشائر والمهربين". اليوم، يواجه "حزب الله" أزمة مالية خانقة بعد ضرب شبكة تهريب مخدر الكبتاغون التي كانت تدرّ عليه أرباحاً طائلة تجاوزت 5 مليارات دولار، كان يتقاسمها مع أركان النظام السوري السابق. لذا، فإن العشائر والمهربين أصبحوا أداة يستخدمها "الحزب" للضغط وابتزاز الدولة اللبنانية والسورية معاً.

إن افتعال هذه الفوضى الحدودية يمنح "حزب الله" ذريعة جديدة للتمسك بسلاحه، عبر الادعاء أن وجوده ضروري لحماية لبنان من الجماعات الجهادية. وهنا، تأتي الاستفادة السياسية من المشهد الإعلامي، حيث يتم الترويج لمقاطع القصف المدفعي السوري على القرى اللبنانية، لإظهار أن لبنان يتعرض لعدوان خارجي يستوجب الإبقاء على سلاح "المقاومة". لكن الحقيقة هي أن "حزب الله" هو أصل المشكلة، وهو الذي أدخل لبنان في هذه الدوامة الأمنية والسياسية.

رغم أن "حزب الله" هو المسبب الرئيس لهذه الأزمات، إلا أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الدولة اللبنانية التي لم تتخذ حتى الآن خطوات جدية لنشر الجيش اللبناني بشكل فاعل ودائم على الحدود الشرقية، وذلك تمهيداً لمطالبة سوريا رسمياً بتطبيق القرار الأممي 1680، الذي ينص على ضرورة حل النزاعات الحدودية بين البلدين وتطبيع العلاقات السياسية بما يمنع استمرار هذه الفوضى.

حتى الآن، لا يزال كل من الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام يكتفيان بالتصريحات السيادية الصارمة، لكن دون أي خطوات عملية ملموسة. إن إرسال الجيش اللبناني إلى الحدود كردّ فعل على التوتر ليس عملاً سيادياً، بل الحل يكمن في إجراء ترسيم رسمي للحدود، وإنشاء علاقات واضحة وشفافة بين الدولتين، لضمان منع أي تداخل يسمح بتشكّل مجموعات مسلحة عابرة للحدود.

يجب أن يتذكر القادة اللبنانيون مقولة الشاعر الأميركي روبرت فروست: "الأسوار الجيدة تصنع جيراناً جيدين". فلا يمكن للبنان الاستمرار في إدارة حدوده بسياسة المماطلة والإنكار، لأن ذلك لن يؤدي سوى إلى استحداث المزيد من العشائر والميليشيات التي ستُستخدم لخدمة مشاريع تدميرية أخطر في المستقبل.